روزا – محرر

فيرونا. محطة القطار، الجمعة 21/12/2023, الساعة التاسعة والعشر دقائق ليلا. الطقس بارد، تجمدت أطرافي ورأس أنفي، أدخل يدي في جيبي، وأرفع الشال على الوجه عله يدفأ قليلاً. بتول (أختي)، بجانبي، ننتظر الأقارب ليصلوا بعد دقائق. الطقس جد بارد، أرفع رأسي نحو السماء، فأراها قد تلونت بالأحمر والبنفسجي، تخيف قليلاً، إذ تشع رغم عتمتها بفعل إضاءة المنازل.  وقد زاد المشهد أكثر رعبا، بعيداً عن الأنفاس الساخنة تتصارع مع البارد من الهواء، وسماء مصاصي الدماء، خلو المحطة.  لا بشر هناك، ترى على جنبنا رجلاً (متقّم)، بنظارات شمسية، يحمل باقة من الأزهار منتظراً الأحبة. أما عن الشمال، فلا ترى سوى سراب وظلال، سراب لأشخاص غير متواجدين، يتوسطهم محفظة ورجل عجوز، يكلم نفسه، يضحك، يصرخ، تعج المحطة بصدى صوته، فالفراغ وصوته يسودا المكان. 

المشهد على الرجل وشيبه، تراه ليس وحيداً، فقد حاوطته الشرطة من كل زاوية.. نمعن أكثر برجال الدولة، مضرب على الخصر، سلاح “فرد”، من الجهة الأخرى، محكم الإغلاق، قد مل من تواجده دون “شغله وعمله”، زي أزرق أنيق، وبوتين لا يفي سوى بالركل والضرب على الأرض. أياديهم قد انقبضت، وراحت القبضات تضرب المشرد الجالس، والصراخ يعلو مجدداً، ضرب وصراخ، أنين وتعذيب. تخجل عيناي من أن تنظر إلى الواقعة، أزيحها برهة، وأعيدها بعد ثانية …

لا أدري إلى الآن، ما قد حل بذاك العجوز، هل استخدم الفرد أو المضرب؟ هل أعدوا تهميشه وتناسوه ؟ أم إن أحد دور الدولة الديمقراطية تكفلت بإيوائه، تعالجه الآن، وتحميه بدار و سقف، يقيه ظلم الشتاء. 

نخرج الآن من شوارع الغرب، ونعود إلى ربوع الوطن، لأزقة بيروت وزواريبها، ونسلط المشهد على الجسر، وعلى أرصفته؛ فبين كل حقيبة وحقيبة ثمة رجل، غدرته الدنيا وساقته إلى القرب من مكب النفايات. ترى أخاديد في وجهه، قد حفرتها مررت الدنيا، شيب ولحية يعز عليك إن لمحتها رؤيته حانياً الظهر مقوساً، قد أكلت من يديه الأشغال والمتاعب… نبتعد قليلاً لنصل إلى شارع “الحمرا”، أو حتى إلى “جان دارك”، المشهد ذاته يتكرر من جديد، لكن الشيب لا تسأل المرة عن المال، بل تعمل، وتشقى وترهق، لكسب “منقوشة” على الأقل. فهاك عربة محملة بأكياس المحارم، تقودها اللحية البيضاء، وتمشي بها بين الأزقة، وتانك علبة “كلورتس”، على قدمين متربعين، لا على العرش، بل على أرصفة الطريق، تنتظر العلبة من يفلتها من احضان الشيخ، ويشفي صدره “بلقمة حلال”. وكلما مررت بجانب أحد منهم، لطأطأت رأسي خجلا، واستحت حدقتاي من أن تنظر بأعينهم، وأتمتم لهم عذرا عند المرور، نيابة عن دولة لا تحترم حقوق الكبار والشيوخ والعجزة، تحتضنهم بأرض، ولا تقدم لهم أية جزيل ومعروف.

سئمت من كل هذه المشاهد واللحظات، من ظلم وقسوة نعيشها. فمن يستحقون الحياة وما فيها من روح، يهمشون أياً كان في الشرق أو الغرب، يعاتبون لكونهم بشر، تفترسهم رجال الدولة الفاسدة، ويهملها الشعب و”برستيجه”. فكفوا عنا بهذه الديمقراطية الزائفة، وحقوق الإنسان المصطنعة. وقبل إن نهب لانتخاب رئيس للجمهورية، ونعالج الشؤون الدبلوماسية الخارجية، دعونا نقر موازنة لهم، تفيهم حقوقهم البسيطة، لتنام أعينهم قريرة هانئة. وتكرم تجاعيد ذاك الوجه الجليل. أولا يحق لهم دور تكفلهم، تكرم الصمود والمقاومة بعد كل ما قاسوه؟ وينيي الدولة إذن بعد كل هذا؟ وأين مؤسسات نفاقها تلك؟ منعمون مرتاحون؟ 

أولا يخجل أشباه الرجل من النوم 

مع كل غفوة يتفادون عتاباً ولوم 

كبارهم في العراء مرموَن 

فذا خائف بردان وجائع 

أما من أحد انينهم سامع 

لم تعد الدنيا بألف خير 

فبالأشاوس الشيطان قابع 

هم في قصور مشيّدة 

وشيوخهم يتخذون بيتاً من الشارع