إيمان عيتاني | محرّر

عندما يولد المرء في بلد كلبنان تختلف أحكامه في كثير من القضايا، فمنذ ولادته تحد آراءه حدود دولية تصارع التقاليد المجتمعية مع سقف آمال ترسمه الأزمات الاقتصادية. في بلد كهذا، ينخرط الفرد في مجموعة من الأحكام المسبقة يمليها عليه المجتمع، و قلّ من يصنع أحكامه بيده. من بين ركام الاحكام هذه حكم أصدر بحق اللغات الأجنبية، منذ ما يزيد عن المئة عام تحول حكم تعلم لغة ثانية وثالثة من هواية شخصية إلى التزام وطني.

في ظل هذا الإلزام العام ماتت اللغات كمادة حية تبعث روحا جديدة في الانسان و باتت كلمات وقواعد يمليها أستاذ مدرسة سئم التدريس و الطلاب. فما اللغة؟ و ما للإنسان من تعلم اللغات في عصر تحكمه قدرة الذكاء الاصطناعي لا على الترجمة وحسب، بل على تأليف النصوص و المقالات؟

قرأت في الصغر مقولة عن أن “أولئك الذين يعرفون لغات عديدة، يعيشون العديد من الحَيوات بقدر اللغات التي يعرفونها” و رغم صغر سني الا أن هذه العبارة بدت أشبه بمبالغة شاعرية، رغم جمال وقعها على الأذن إلا أن مدى صحتها مشكوك فيه. و مما يزيد من الشكوك هو تعلمنا كشعب لبناني للغة الفرنسية او الانكليزية منذ الصغر فيصعب علينا إدراك الفرق منذ أن حكم علينا بأكثر من لغة. و حتى وقت قريب كنت لا أزال على شكي من صحة هذه العبارة، إلا أنني أدركت حين قررت تعلم لغة جديدة قبل سنوات أن إنسانا جديدا يولد في داخلنا مع كل لغة، أننا نكتشف جزءا غير قابل للترجمة في داخلنا. لكن لاكتشاف هذا الجانب منا شروط.

الشرط الأول هو أن تبدأ مدركا طول المسير، هدفك الأول أن تكتشف عالما جديدا تضيفه الى حياتك. فلا الدروس الملقنة في المدارس التي لا تهدف لغير اجتياز عدد من الامتحانات و لا الرغبة لاستخدام اللغة بإتقان في بضعة أشهر كفيل بتحقيق الفائدة الحقيقية وراء تعلم اللغات. إن على المرء الاستمتاع بكل حرف و كلمة و أن يدرك أنه و إن جهل الآن ترابط الكلمات ببعضها الا أن يوما سيأتي لتتصل فيه خيوط اللغة بعضها ببعض و تتشكل شبكة يحيكها كيفما شاء. 

الشرط الثاني هو أن تتصل كمتعلم بالحكايا المخفية وراء الكلمات، أن تخوض في عالم آخر تبنيه من الصفر، حيث مساحتك الخاصة والقرار بيدك لتبني ما تريد. تبدأ رحلتك في تعلم لغة جديدة كطفل يتعلم الحياة للمرة الاولى، تدخل عالما فارغا في انتظار أن تبنيه كلوحة بيضاء في انتظار الرسام. هناك يصبح للطاولة حكاية عن الاخشاب و للنقوش تاريخ من الفن و العمار، أنواع جديدة من الأزهار تنمو في مناخ لا يتكرر في أي مكان و تسمع عن حكايا شعبية تتشابه لحد لا يصدق مع ما كانت ترويه جدتك منذ سنوات. تدرك مدى تشابه و اختلاف الإنسان في آن.

و أخيرا، أن تدعو الآخرين لعالمك الجديد، أن تنير الطريق لمن يسعى لبناء عالمه الخاص، أن تبني صداقات مع من سبقك إلى هذا الطريق. و أن تدرك أن الطريق الوحيد للاستمرار يكون يدا بيد مع الآخرين. لأن اللغة تعيش في كل إنسان ولكل إنسان لغة، و ما اللغة غير تصوير حي لرؤيا العالم.

إن تعلم اللغات، وإن خسر اليوم قدرته على فك أسر المعلومات في ظل عصر التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، إلا أنه يبقى وسيلة حية لربط الإنسان بالإنسان. لأن يدرك الجميع أن العالم أوسع من أن يرى من نافذة واحدة وأن الإنسان أعقد من أن يفهم بلغة واحدة.