آمنة حلاوي | محررة

لا أذكر سوى أنّني غفَوت قليلًا أمام التلفاز وأنا أنتظر برنامجي المفضّل على سبيستون، بينما كانت ماما تحضّر لي كوب الحليب الدافئ الذي اعتدتُّ أن أشربه كلّ صباح، فصحوتُ بعد عشر سنوات، لأرى أنّ الكثير قد مرّ، ومرّ الكثير منّا…

أذكر أنّنا كنّا أمام شاشات التلفاز عندما قالت سبيستون: سنعود بعد قليل، فعُدنا كبارًا، نستيقظ مع طلوع الصباح لنبحث عن وميض الضوء في آخر النفق، فحلمنا نهارٌ ونهارنا عمل، لينتهي بنا يومنا الحافل فتطلّ علينا الأحلام بالأنوار واعدة.. 

قد كنّا أطفال الماضي الذين أُخبِروا بأنّهم شباب المستقبل.. واليوم ها نحن هنا، لكلّ منّا هدفٌ مختلف يتوق إلى تحقيقه، بعد أن كان حلمنا في كلّ ليلة أن نستيقظ صباحًا على خبرٍ عاجلٍ مفاده أنّ العاصفة الهوجاء قد فرضت نفسها علينا وأصدرت بيانًا بإلزاميّة التعطيل المدرسي، وهذا لم يكن حدثًا عاديًّا، فقد كان يشبه صباح العيد ببهجته، فهو بالنّسبة لنا كان أكبر أمنياتنا، وأدركت لاحقًا، أنّه كان أبسطها أيضًا.. 

واليوم يا عزيزتي سبيستون، وبينما أنا أكتب هذا النّص، مرّ بخاطري كيف أنّه هُناك وعلى بُعد مئات الكيلوميترات فقط، شبابٌ وشابّاتٌ كانوا أيضًا أطفالك يومًا، ينامون ليلًا على صوت أغانيكِ ويستيقظون صباحًا وهم في لهفةٍ لمشاهدة حلقاتك الجديدة، لكنّهم اليوم، ينامون على صوت الطائرات ليستيقظوا صباحًا على قصفها.. هم اليوم، يعيشون في غابٍ لا يسري فيه سوى قانون الوحشيّة والقتل، تحت وطأة الحرب والدمار.. بين فوضى يصعب على سندريلا أن ترتّبها.. ومنجاهم الوحيد، هجرةٌ نحوَ حدودٍ قريبة، لكنّ أقربائهم، أحكموا إقفالها بشدّة.. يعيشون بين طواحينٍ دُمّرَت فوق رؤوسهم، وصارت عاجزةً على أن تخبّئ أمانيَهم فيها، يبحثون بين ركامها على فتات خبزٍ يقتاتون عليه، وعلى مَسمعِهم موتٌ ينادي: هل من مزيد؟! 

شبابٌ وشابّات قد كانوا في الماضي أطفال سعداء، لكنّهم اليوم يتنهّدون متمتمين: غزّة.. فتخرج من صدورهم ظلالٌ منكسرة، ومن تحت بيوتهم عظامٌ ذائبةٌ وأشلاء متفرّقة.. ينادون على إخوتهم الصغار، فتتعالى أصوات البكاء وتتناثر الأصابع الصّغيرة في الهواء.. يحاولون المضيّ قُدُمًا، لكنّ ما حولهم يبتُرُ أقدامهم.. إلا أنّ الأمر الأكيد، أنّه مع كلّ صوت أنينٍ وشحرجةٍ وبكاء، تخرج صلوات إغاثة من قلب أمٍّ لا تملك سوى الدعاء، وتقبضُ يدُ مقاومٍ باسلٍ على زنادِ البندقيّة.. الحياة عندهم مؤجّلة إلى موعدٍ لم يُحدّد بعد، لكنّه موعِدٌ مع النّصر، باتّجاه بوصلة التحرير، فهذه الحياة التي كُتِب عليها أن تكون ألمًا ثقيلًا، هي حياةُ بلادٍ يسعها الحُبّ كما الحزن، ويسعها النّصر بقدر ما ساع جوفها احتضان شهداءٍ أبطال..