حسين موسى | كاتب صحفي

“أهرب قبل أن يفوت الأوان وفات الأوان دائمًا يفوت الأوان دائمًا نصل متأخرين حيث لا يفيدنا طيران ولا أجنحة وتغزونا الغربان في وضح النهار وحلكة الليل لا فرق لا فرق لا فرق لا فرق لالالالالالالا قبل عشرين عامًا كنت أقولها بكبرياء وقبلها بعشرة أخرى كنت أقولها بغرور وعناد والآن أقولها بغير اكتراث ولكن جذورها في الصدر والكبد الأحشاء ولا يهمني من يسمعها فالممثل ما عاد يهمه من هم الجالسون في القاعة بل لا يهمه إن كانت قاعة ما دام هو في وسط الخشبة يطلق صرخته في رحم الظلام قبل أن ينسدل الستار …” 

كلمة وليد مسعود الأخيرة ص ٢٦-٣٤ من “البحث عن وليد مسعود” لجبرا ابراهيم جبرا    ~

     ترك وليد مسعود كلمةً أخيرة بعد أن اختفى في المناطق الحدودية وشريطًا مسجّلًا فيه تراجيديا الإنسان العربيّ ذي المشاعر والأفكار والتخيّلات، والأماني والمعارف والتطلّعات. فيه لغم فكريّ وبوح منفلت عن شتّى القيود التي كبّلت لسان العربيّ على مرّ صدمات وصدمات تاريخيّة.

     لا نخطئ إن وصفنا ما باح به وليد مسعود في الشريط المسجّل ب”الكلمة”.. إنّها كلمة واحدة صادقة وبوح إنسانيّ يتعدّى الاداءات اللغوية والتقسيمات الأسلوبية الشكلية. فلا نقع على أيّ فواصل أو تقسيم لكلامه المباح، ولا نجد كلامًا مصفوفًا منمّقًا، أو حتّى جملًا مكتملة المعنى وجاهزة العناصر النحويّة. إنّها بوح متواتر متدافع، وإعلان متوتّر كأنّ قائله كان أبكم غير قادر على الكلام وأخيرًا سُنحت له الفرصة لكي يضخّ كلّ ما فيه من هواجس. لذا فنرى أنّ كلمة هذا الرجل العربيّ، صاحب الإنجاز والتحصيل، جاءت على شكل جملة واحدة لا تنتهي ولا فاصل بين أفكارها المتعدّدة. وقد تضمّنت تساؤلات وتأوّهات ونداءات، وتمنّيات، وكلامًا عاميًا، وأبياتًا من الشعر، وكلامًا بالأجنبيّة، وتكرارًا لا واعيًا (لالالالالالا).

     أحاط بكلمة مسعود الأخيرة جوّ مليء بالتشرذم والشتات، يختلط مع مضامين متشعّبة، إنْ وقتما تحدّث عن شهْد وما تمثّله له من صورة بهيّة للحياة العذبة الهادئة، أو حين استرجع ملامح من الطفولة مسافرًا عبر الزمن ومخترقًا قدرة الذاكرة الإنسانيّة على وسع ما قد استرجعه من محطّات حياتيّة مختلفة، حتّى وصل إلى استفهام مهمّ وصادم هو إنْ كان يريد الموت (ص ٣١). يبدو وكأن مسعود يحاول مسح كل ما في ذاكرته ووجدانه من هواجس ويتقفّى كلًّا منها ليصل إلى النقطة التي يريد التشديد عليها.. ولكنّه لا يصل.

   نلقى مسعود في رسالته الأخيرة في لحظة عبّر عنها فرويد بما يشبه الغثيان أو الإحساس المرضيّ المتواتر الذي يراود الإنسان من حينٍ إلى حين بفعل التوتّرات الحياتيّة والمكبوتات اللاواعية التي يتأثّر بها. كما تدلّ على تناقضات وليد مسعود، الإنسان العربيّ المثقّف، النفسيّة والمجتمعيّة التي خَبرها، تاركةً فيه أثرًا لم يفصح عنه على مرّ السنين إلّا بهذه الرسالة المفعمة بالحبّ والحزن، والمقاومة، والغياب والوجود. فيها رومنسيّة الصراع وشتات التجربة الإنسانيّة، فيها حزن الطفولة وقساوة الطريق الصحراويّة، فيها اللحظة الحميمية والموقف الجدي مع الأصدقاء حيال مسرحية الحياة. إنّها أشبه برواية ضمن رواية، فكما كان الدكتور جواد يبحث عن وليد مسعود في رواية جبرا إبراهيم جبرا هذه، جامعًا معارفه ومتقفّيًا أثر لقاءاتهم بوليد مسعود، كانت هذه الكلمة الأخيرة بمثابة رحلة البحث عن وليد مسعود من قبل وليد مسعود نفسه. هي رواية البحث عن وليد مسعود، الابن الفلسطينيّ، عن نفسه ضمن نفسه.