بتول سويدان

لقد صقلت البيئة الحاضنة للشاعر الجاهلي إنتاجه الأدبي شكلاً ومضموناً. ولأن حيوات شعراء ذاك العصر كانت متقاربة الصفات، استطعنا أن نلحظ تكراراً لي الملامح الشعريّة لقصائدهم، على الرغم من تفرّد كلّ منهم بأسلوبه. وقد ظهرت هذه الملامح على القصائد المختلفة في مغزاها ومكان نسجها، وامتدّ بعضها الى شعراء صدر الإسلام كما لو أنّها “أدبيات شعريّة” لا يمكن الحياد عنها. ومنها الغزل بالحبيبة، الوقوف على الأطلال، التغني بالقبيلة …الخ

أولى هذه الادبيات ظهوراً في صدور القصائد الجاهليّة هي المقدمة الطللية. والطلل لغة هو ما بقي شاخصاً من آثار الديار ونحوها، وجمعه أطلال أو طلول. أمّا معناه الوظيفي، فهو مستند الى الآليّة التي ذكر بها. تقول عزة حسن، مؤلفة كتاب “شعر الوقوف على الأطلال من الجاهلية الى نهاية القرن الثالث”، الى أن الطلل الشعري من حيث توظيفه في القصيدة الجاهلية على نوعين: الرسوم والأطلال. فالرسوم هي البقايا التي تكون على الارض وتظهر ملتصقة بها كالرماد والدّمن. أمّا الأطلال فهي البقايا التي تظهر شاخصة فوق الأرض كالأوتاد وبقايا الخيام. وقد يلحظ القارئ من خلال تتبعه للمعاني المذكورة في المعاجم العربية، وجود مضامين أخرى كشخص الإنسان أو الحيوان، وما ارتفع من خلقه. غير أنّ هذه المعاني بعيدة عن التوظيف الشعري لطلل.

ويقرأ المختصّون المقدمة الطلليّة قراءة نفسية في معظم الأحيان. فابن قتيبة مثلا، يرى بأن ابتداء القصيدة بذكر الديار والدّمن والآثار إنّما هو ذكر لأهلها الظاعنين فيها، والذين انتقلوا منها لتتبعهم مساقط الغيث ومصادر الكلأ. ويؤيد ذلك موقف الدكتور محمد الكفراوي القائل بأنّ الهدف من ذكر الدّيار هو البكاء على الحبيبة، وإظهار العذاب النفسي الذي يحظى به الشاعر متنقلاً من صحراء لأخرى بحثاً عن مصادر العيش. وفي كلا الحالتين ( إظهار الحزن على الحبيبة أو الحزب بسبب الترحال)، تعتبر المقدمة الطللية مرآة لنفس الشاعر وتصوير خلجاته. غير أنّ مداليل أخرى لوحظت الى جانب هذا المدلول النفسيّ كتلك التي يحددها د. ديزيرة في كتاب “العرب في العصر الجاهلي”:

  • المدلول الاجتماعي : أي أنّ الطلل يعكس حياة المجتمع البدوي القائم على الترحال.
  • المدلول الفنّيّ: المقدمة الطللية بوصفها عادة ابتدعها الجاهليون واستمرّت بعد ذلك.

أمّا عن مضمون هذه المقدمة فهو متنوع بطبيعته، نذكر بعض أمثلته:

  • التسليم على الطلل:

أَلا عِم صَباحاً أَيُّها الطَلَلُ البالي.

وَهَل يَعِمَن مَن كانَ في العُصُرِ الخالي

 

  • ذكر صاحبة الديار:

 

لِخَولَةَ أَطلالٌ بِبُرقَةِ ثَهمَدِ

تَلوحُ كَباقي الوَشمِ في ظاهِرِ اليَدِ

 

  • وصف بقايا الديار وتخريبها:

 

لمن الديار بتولع فيبوس

فبياض ريطة غير ذات أنيس

أمست بمستن الرياح مفيلة

كالوشم رجع في اليد المنكوس

 

  • وصف حالة الشاعر النفسية عند الوقوف على الطلل:

 

لِمَن طَلَلٌ أَبصَرتُهُ فَشَجاني

كَخَطِّ زَبورٍ في عَسيبِ يَمانِ

وغيرها من المضامين كمشاركة الاصحاب الحزن، الدعاء للديار بالسقيا، ذكر مدة الفراق، ذكر الحيوان الذي يألف الديار بعد تخريبها، التسليم على الدار…إلخ.

 

المقدمة الطللية باختصار هي أحد الادوات الدّالة على حقيقة الحياة الجاهليّة والألم الجماعي الذي كان على الانسان العربي التعايش معه. تجدر الاشارة الى أنّ المقدّمة الشعرية لم تكن طللية دوما، فالمقدمة الغزلية مثلا، انتشرت كظاهرة شعرية لا تقل شأنا عن نظيرتها الاولى. وهذه بدورها مرتبطة أيضاً بوجدان الشاعر وآلامه المتجددة.