بتول سويدان | كاتبة صحفية

‎كرة القدم: هدفٌ لصالح السّياسة 

‎  كرة القدم، أحدُ أكثر الرّياضات شيوعاً في عالمنا هذا. هل استمتعت بها من قبل؟ نعم؟ جوابٌ متوقع. لكنْ، هل استمعت إليها؟ إن كُرةُ القدمِ رياضةٌ عالية الصّوت، شديدة اللهجة أحيانًا. تقول هذه الرياضة الكثير عن العالم، عن الشّعب، عن الفنّ، عن الحقّ والباطل، وعن السّياسة. والحقيقة أنّها لا تقول، بل يقال بها. وهو ما يجعلها، بالتواطئ مع شعبيتها المفرطة، بوقًا لساسة الأوطان

‎  ارتباط السّياسة بكُرة القدم، فكرة مكروهة، تثير غثيان الوحدة الشّعبيّة عامّةً. لا سيّما إذا تزاوجت السّياسة بالكرة في مجتمعٍ عربيّ. فالكرة في الذّاكرة الشعبيّة اجتماعٌ وفرحٌ ولهوٌ، والسّياسة في الأذهان العربيّة شؤمٌ وفساد. غير أنّ الواقع واضح المعالم، فمنتخبات الدول أضحت نردًا في أيدي السّاسة، أو ساعي بريد لرسائلهم السّياسية التي لم تعد خجولة بشكلٍ عامّ

‎  والحقيقة أنّ هذه العلاقة ليست وليدة الأيّام الحديثة، بل هي ابنة الأمس البعيد. ففي عام ١٩٣٤، مثلاً، حين كان العالم على مشارف الحرب العالمية الثانية، وفي ظلّ الكساد الاقتصاديّ الكبير، استغلّ موسوليني كأس العالم بنسخته الثّانية للتسلّق على ما تبقى من غبطة إنسانيّة بسيطة وتسخيرها كأداة لتلميع أروقة الفاشيّة. وهو ما أفصح عنه، دون مواربة، رئيس اتحاد إيطاليا جيوجيو فاكار بقوله: “الهدف النهائي من هذه البطولة هو إظهار الوجه المثالي للفاشيّة في الرياضة

‎ ولعلّ أبسط طرق التعبير والمشاركة السياسيّة في الملعب ظهرت من خلال إشارات وتلميحات لا خلاف على وضوحها. فقد ألِف الملعب الشّعارات السّياسيّة، تماما كما ألف وقع أقدام اللاعبين. كأنّ هذه الشّعارات صارت جزءًا لا يتجزّأ من تاريخ اللّعبة. إليك بعض هذه الحوادث: اللاعب الإيطالي “باولو دي كانيو” وسلامه الفاشيّ بتحيّته جماهير نادي لاتسيو، الشّارة الصفراء التي ارتداها “بيب غوارديلو” مدرب مانشيستر سيتي إشارةً لتأييده انفصال كاتالونيا عن إسبانيا. رفع المهاجم التونسيّ سلامة القصداوي لافتة <تونس حرّة> بعد تسجيله هدفاً في مرمى الجزائر تعبيرا عن تأييده للثورة. وآخر هذه الأحداث، هي المبادرة الشعبيّة لرفع أعلام فلسطين في النسخة الأخيرة والحاليّة لكأس العالم، أداةً لمناهضة الأرض المحتلة

‎  من السّهل أن يبصر الفرد الارتباط القائم بين الرياضة والسّياسة عبر هذه الأمثلة المختزلة جماهير، شعارات، أعلام أوطان وتحركات، قدحٌ وذم… إلخ. لكنّ اختصار هذا الارتباط القائم بما ذكر سابقاً، وتأطيره بهذه الأمثلة القليلة، لهو استخفافٌ بعقل القارئ، وحقّه كمواطن في الوصول الى خفايا كواليس اللّعبة. هذا عدا عن كون الجزء المتبقي، التّفصيلية الأكثر سوءًا حول الحقيقة

‎  ما نخشى منه حقّاً، عند الحديث في هذا الصّدد، هو أن تستخدم إنجازات الكرة وسائر المواهب الوطنيّة، لترميم صور الدولة وحالة الشّباب فيها. كأن يُظَنَّ بأنّ احتراف منتخبٍ ما، هو نتيجة صقل الدولة الفاسدة لمواهب شبابها. أو أن تغطي أفراح الكرة على البؤس الاجتماعي لمجتمعاتها. فالفوز إنجاز وطنيّ، يتبجّح به وزراء الرّياضة ورؤساء الحكومات. أمّا أن يكون مؤشر التنمية لذات الدولة في أدنى مستوياته، فهو أمرٌ، كما تصفه لغتنا العاميّة، ” ما بتنجاب سيرتو

‎  استغلالٌ آخر تمارسه الدول بحق أبنائها، عندما يلجأ المسؤولون الى التضخيم الإعلامي للإنجازات الفردية والجماعية لخلق حالة من النسيان وجرف الاهتمام الى ما هو مهم، لكنّه أقل أهمية بكثير من جرائم الدولة بحقّ شعبها. فالأموال التي تصرف في دولنا على رعاية وتمويل الفرق الرّياضيّة هي ذاتها، في أغلب الأحيان، أموالنا المنهوبة. ويساعد في تنفيذ هذا المخطط السّياسي الاجتماعي، حالة الهوس الجماعيّ التي خلقها مسؤولو الدول الكبرى حول رياضة واحدة، تهمّ الجميع، تمتّع الجميع، ويطالها أفقر البشر

‎  على أية حال، فإنّ المذكور سابقاً لا يلغ الباطن الجميل لكرة القدم. فكما يصفها محمود درويش ببلاغته المعتادة: ” لما لا؟ إن كرة القدم هي ساحة التعبير التي يوفرها تواطؤ الحاكم و المحكوم في زنزانة الديمقراطية العربية المهددة بخنق سجنائها و سجانيها معاً، هي فسحة تنفس تتيح للوطن المتفتت أن يلتئم حول مشترك ما.” يبقى الأهم أن يكون هذا الوئام والاجتماع الشعبيّ ملهماً وصادقاً، وأن يكون الملعب ملك الشّعب وبوق الشّعب، لا بوق السّاسة