نزار بو كروم | محرر
بين عامي 1975 و1976 أصدر عدد من الناشطين اليمينيين المتطرفين اللبنانيين منهم أنطوان فتال وانطوان نجم دراسات حول الفدرالية وقاموا بالترويج لها على أنها خلاص لبنان الوحيد. ما لبث أن تبنى هذا الرأي اليمين اللبناني وقتذاك المتمثل بالجبهة اللبنانية التي كانت على مشارف الهزيمة في الحرب الأهلية فرأت في الفدرالية فرصة النجاة لها ولمشروعها.
الفدرالية هي النظرية التي تقضي بتقسيم الصلاحيات السياسية للسلطة بين الوحدات الأعضاء والمؤسسات المشتركة على أن يبقى بيد الحكومة المركزية الحسم في القرارات الكبرى وتحديد السياسة الدفاعية والخارجية والمالية العامة. عدد كبير من دول العالم اعتمدت الفدرالية كنظام حكم أبرزها الولايات المتحدة وروسيا وسويسرا والبرازيل والإمارات العربية المتحدة. وفي لبنان، معظم المشاريع المطروحة تقسم لبنان إلى مناطق طائفية صافية، بشكل يسمح لكل طائفة بأن تحكم نفسها بنفسها. عاد هذا الطرح إلى التداول مع انهيار الجمهورية الثانية وإجماع اللبنانيين على وجود خلل في الصيغة الحالية للنظام، وعلى حاجة لبنان إلى “عقد اجتماعي” جديد لكي يحيا ويستمر. لكن الفدرالية لا يمكن أن تشكل الضمانة لاستمرار لبنان، بل هي ستكون _إذا تم العمل بها_ الخطر الأكبر على سيادته ووحدة أراضيه.
من أجل تحليل مبادئ الفدرالية في ضوء واقع الوضعين الداخلي والخارجي للبنان، لا بد من مراجعة هذا الواقع. فعليا، الأراضي اللبنانية مقسمة إلى مناطق طائفية صافية، كان للحرب الأهلية دور كبير في هذا الفرز. لدى كل طائفة حزب أو عدة أحزاب تمثلها في مجلس النواب منتخبة بقوانين انتخابية طائفية. بدورها كل كتلة من الكتل النيابية الطائفية تختار وزراء الحكومة المنتمين إلى الطائفة نفسها وينسحب هذا الواقع التقسيمي الطائفي على كل أذرع الدولة من إدارات ومؤسسات عامة وبلديات الأمر الذي يسمح للقوى الطائفية الكبرى بتقاسم مقدرات الدولة وفرض سيطرتها على المناطق الخاضعة لنفوذها. فنرى بيع الخمر ممنوع في بعض المناطق الخاضعة للأحزاب المسلمة وسكن المسلمين ممنوع في مناطق أخرى تابعة لسيطرة أحزاب مسيحية. بناء على ما تقدم، يتضح أننا نعيش في ظل فدرالية طائفية غير معلنة، وإعمال الفدرالية في هذا التوقيت وفي هذه الظروف ما هو إلا إضفاء شرعية على الواقع الحالي.
من المعروف أن الفدرالية تتطلب دولة مركزية قوية تجمع الأقاليم المختلفة، وتحل الخلافات بينها، وتفرض عليها القوانين والقرارات وتحتفظ لنفسها بصلاحية تقرير السياسة الدفاعية والخارجية والمالية العامة للدولة الاتحادية. لا شك أن هذا الشرط غير متوافر في الحالة اللبنانية، فالدولة بكل مؤسساتها واهنة يسودها الفساد الممتدة جذوره منذ الحرب الأهلية. هذا دفع كثيرين إلى القول بأن لا دولة في لبنان وأن الأحزاب الطائفية الكبرى هي التي تحكم بالتوافق بعيدا عن منطق الدولة بهيكليتها ومؤسساتها. أضف إلى ذلك أن السياسة الدفاعية والمالية والخارجية للدولة كانت ولا تزال موضع الخلاف الأبرز بين اللبنانيين. فحتى الآن لا يوجد مفهوم موحد للعمالة وللوطنية، لأن اللبنانيين يجدون صعوبة جمة في الاتفاق على سياسة خارجية تحدد العدو والصديق. كما أن الخلاف حول السياسة الدفاعية للدولة كان المحرك الأساسي للمناوشات السياسية والميدانية في الثلاثين سنة المنصرمة. مؤخرا أجج الانهيار الاقتصادي والنقدي الكبير النزاع حول السياسات المالية المعتمدة ودور المصرف المركزي. ولا مبالغة في القول إن التوصل إلى اتفاق بين اللبنانيين حول هذه الموضوعات _الواجب الاتفاق عليها في حال اعتماد النظام الفدرالي_ يزيل الدوافع الأساسية للمطالبة بهذا النظام بالنسبة لمعظم المطالبين به.
دعاة الفدرالية يتنصلون من حلف الأقليات ويبررون مطالبتهم هذه بأنها ستمهد الطريق للإصلاح الداخلي وتؤمن الاستقرار السياسي بعيدا عن أية أجندات خارجية. لكنهم يغفلون عن علم أو بدون علم خطورة تقسيم لبنان إلى كانتونات في ظل دولة مركزية ضعيفة ووحدات متناحرة فيما بينها لا تجد سبيلا للاتفاق حتى على العناوين الكبرى والمبادئ الأساسية للدولة. فيقدمون إذ ذاك، خدمة كبرى لهذا الحلف، ببناء فدرالية على أساس هش، معرضة مع أول تحدي للانفراط والتقسيم. وتبقى المطالبات بالفدرالية في الوقت الحالي، في الحقيقة والتاريخ، أساسها الهواجس والمخاوف الطائفية ورغبة المؤسسات السياسية والطائفية التقليدية المسيطرة في المحافظة على امتيازات سوف تحرم منها في دولة المواطنة، الدولة العلمانية، فدرالية كانت أو وحدوية.