زيان صافي | كاتب صحفي
“قتيل الدعوى وحريق المعنى، حسن ابن منصور أبو مغيث، قد أقام نفسه بين الصدق الأعلى والكذب الأدنى، الناس متحيرون في حاله، ما نزل ما نزل إلا لرجحان صدقه في حاله، أو لخيانة نفسه في إظهار شأنه، وهو عند شيوخ القضية بين قبول ورد، بل إلى الرد أقرب.” وهو من أشهر الصوفيين، و يعود اصله الى قرية الطور في الشمال الشرقي لمدينة البيضاء من مدن مقاطعة فارس في إيران، وقتل في بغداد علي يد رجال الخليفة العباسي المقتدر بعد ان صلب وقُطّعت اطرافه واحرقت جثته. (244 هـ 309).
أما لو أردنا الولوج في سيرة الحلاج لوجدنا فيها من مواضع النقاش وميادين الجدل ما هو أشبه بساحات القتال، يعلو فيها تبادل الأفكار صك السيوف والأسل، ولوجدنا في قرارة أنفسنا ما يدفعنا إلى البحث عن حقيقة سلكه في غياهب التاريخ، وبين تشابك التهم، كمن يبحث في قيض البيداء عن بقعة من الماء أو واحة من الأمل.
يتبين لنا الجدل القائم حول الحلاج واضحا جليا في فكره و نظرته حيال ابليس، حيث ذُكر في طواسين الحلاج ” فصاحباي وأستاذاي. إبليس وفرعون.” فكيف يكون عاشق الله صاحب إبليس؟ أوليس إبليس في عرف الناس عدو الله، أو أنّه حبيبه؟ أم أن كلامه إشارة لا عبارة ، وقصده بات رمزًا واشارة؟ وقد ذكر في تذكرة الأولياء أنه لما أحضر الحلاج محل السياسة، جاء إبليس، فقال: يا بن منصور، كنت قلت: (أنا) مرة، وقلت أنت (أنا الحق) مراراً كثيرة، فكنت أنا ملعونا مطروداً من روح الله، وكنت مقبولا عند الله، فما الحكمة؟ فأجاب الحلاج وقال: أردت أنت بقولك (أنا) خالصا بوجود نفسك، وأنا قلت (أنا) عند فقدان وجودي وفنائه. وقال إبليس: صدقت، ومضي سبيله. وتجدر الإشارة ان الإنسان تتلمذه مدرسة الحياة ويصقله جلخ التجربة والاعتبار- فالإنسان كائن منقوص وهو يسعى إلى تحقيق كماله- مما قد يدل على أن الحلاج اُتّخذ من إبليس أستاذاً له خشية الوقوع بمثل زلته، ومعرفةً بنفسه وقدرتها على ان تنزل الإنسان من بساط الأنس إلى الانحطاط. فضلا عن ذلك، فان ابليس نفسه، يُضِل الناس من حيث هم. إذ أن الوسواس هو نتاج لتلك النفس الضدية، المجبولة بالطباع الإبليسية. والنفس لا يأتيها الشر الا من قبل ذاتها. فكلٌّ منا إبليس، إن لم تُلجَم النفس وتُكبح. ولما كان الإنسان بنفسه الجوهرية يقابل الظلمة بالنور، فإنه يرى في الخطأ والاعوجاج حسن الصواب والاستقامة، والضّد يبرز حسنه الضد. ومن جهة أخرى -كما ذكرنا سابقاً- أن التّصوف إشارة لا عبارة، وقد يكون في ثنايا طواسين الحلاج وبين سطوره غاية باطنة مشفرة تستّرت بالمعنى الظاهر وتموّهت في حدة رفضه.
ووجبت الإشارة، أن مع النصف الثالث الهجري، أخذت مشكلة اللغة تطفو على سطح التصوف. فقد توغلت الأحوال الصوفية وجشت المعاني وخلت، فلم يعد بإمكان اللغة العادية ان تصور الشطحات الصوفية التي تعبر عما يخطر في البال أو يترنح على نغم الأحوال، وعجزت الحروف أن تنطق بأسرار الروح، وعما يحدث في أوقات السّحر وتبوح. فباتت أقوال مبهمة يفهمها كلٍّ على ليلاه. كما يقول الجنيد في ذلك: “لون الماء لون إنائه..” وكانت اللغة خير قادح لاتهام الحلاج بالكفر والزندقة خلافاً على غيره من المتصوفين الذين تستروا بالجنون او الفقه. وقد قال الشبلي: “أنا والحلاج كنا في سمت واحد، لكن نسبوني بالجنون، فلذلك نجوت، فلكون حسين عاقلا أهلكوه.”ومن أبرز الأقوال التي أدلت بالحلاج إلى حتفه وكانت خير مثال على ما قلناه سابقا، أنه كان يلجأ إلى وصف ذاته بالحق قائلًا “أنا الحق”، إذ يرتكز في فلسفته على مسئلتين هما وحدة الوجود ووحدة الشهود، فهو يعني بوحدة الوجود أن ثمة واحدا فقط في هذا الوجود وهو الله، وأن كل ما في الوجود من هذا الموجود انبعث. ولقد برز هذا واضحًا في قوله:
رأيت ربي بعين قلبي … فقلت من أنت قال أنت
فليس للأين منك أين … وليس أين بحيث أنت
وليس للوهم منك وهم … فيعلم الوهم أين أنت
أنت الذي حزت كل أين … بنحو لا أين فأين أنت
وفي فنائي فنا فنائي … وفي فنائي وجدت أنت
وقيل: إنه كان يصلي وهو في السجن ألف ركعة في اليوم والليلة، فقيل له: أنت تقول أنا الحق، فلمن تصلي؟ فقال: أنا أعرف قدر نفسي. لقد اعتبر الحلاج أن الطريقة الوحيدة لإدراك هذه الوحدة هي عبر إفناء “الأنا” أو الذات الفردية في”الأنا”، فلا بد لمن يريد الوصول إلى المحور من نكران الذات، وما نكران الذات المحدودة إلا تثبيت الذات التي لا تحد. فمتى مات الإنسان للتحول ولد لعدم التحول. ولكن كيف للإنسان أن يغرق في الله من غير أن يفقد شعوره بذاته؟ “ألعلها خسارة للجدول أن يضيع نفسه في البحر فيصبح البحر ذاته؟ وضياع الإنسان بالله ليس بأكثر من ضياع ظله ليجد كنه الوجود الذي لا ظل له.”
سأل أحدهم الحلاج: “كيف الطريق إلى الله تعالى؟ قال: الطريق بين اثنين وليس مع الله أحد وهو يقصد بذلك أن الله موجود في كل مكان، ولا يوجد طريق للوصول إليه، لأن الطريق يقتضي وجود اثنين وليس مع الله أحد. ولكن يمكن إدراك الله مع ذلك من خلال النظر إلى سائر المخلوقات، كما يقول “النقطة أصل كل خط، والخط كله نقط مجتمعة. فلا غنى للخط عن النقطة، ولا للنقطة عن الخط. وكل خط مستقيم أو منحرف فهو متحرك عن النقطة بعينها. وكل ما يقع عليه بصر أحد فهو نقطة بين نقطتين. وهذا دليل على تجلي الحق من كل ما يشاهد وترائيه عن كل ما يعاين”.
لكن أقوال الحلاج هذه، وفلسفته، قاربها العامة بمنظار الشرك بالله والكفر به حتى اتهموه بالزندقة. فمن اعتقد ما يعتقده الحلاج فهو ملحد باتفاق المسلمين، فإنَ من قال بحلول الله في صورة بشرية أو أن في قدرة مخلوق أن يكون إلها فهو كافر ودمه مباح، ومن ادعى أنه الحق، فهو مارق وقتله حلال، ومن سار بين قومه يدعو إلى عبادة الله ثم يشرك بصورة الله ومثاله فهو منافق.
بيد انه كان من الواضح ان الحلاج كان يستأثر الكثير من المريدين وكان له دور بارز في الدعوة الي عبادة الله الأحد، اذ بلغ عدد مريديه حوالي ٤٠٠ ألف مريد. وإذا راجعنا التاريخ يتبين لنا أن كل من انبعثت شهرته في البلاد في الدعوة الى عبادة الله الأحد حورب واتطهض، وهدر دمائه، إما حسداً له و لرفيع درجته، او ردعاً لإيقاظ الضمير الديني في نفوس الخلق مما يهدد الحكم السياسي- وفي ذلك الوقت الحكم العباسي-حيث كان هدف الحلاج الأساسي زعزعة اركان الحكم العباسي اعتراضاً على الظلم و التعسف و الفسق و المجون والبطر الذي أباحته تلك السلطة. كما أن الحلاج اتهم بالسحر والشعوذة لما كان يظهر له من الاحداث التي تفوق قدرة العقل على التفكير. إلا أن الله سبحانه و تعالى قال في أوليائه: إن أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ {الأنفال: 34} وقال: أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ* الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ {يونس: 62-63}.والله لا ينعم هذه القدرة الا على عباده الصالحين الذين اصطفاهم واوكلهم مهمة ارشاد عباده الضالين. فكل هذه العوامل كانت تعمل بعكس ما تشتهي السفن و تلقي اللوم على الحلاج الذي بات ضحية لسلطة الاستبداد و شهيد العشق الإلهي.
وهكذا حمل المسلمون الحلاج على كواهل الفهم القاصر عن أثقال المعرفة، قبل أن يحملهم إلى الجمال المنزه عن خواطر الأفكار، واحتاروا فيه بينما كان حائرا في عظمة الله، متيما بعشقه، مذهولا بحسن صفاته، مجذوبا بكمال إبداعه. فبعد موت الحلاج، ما الذي ملأ هذا الفراغ الذي كان يشغله ؟ وما الحكمة التي تقع وراء توكيله تلك المهام ومن ثم قتله؟