نزار بو كروم | كاتب صحفي

ما هو الوطن؟ هل هو هذه الرقعة الجغرافية التي صودف أن ولدنا فيها؟ أم أنه المكان الذي يؤمن للإنسان الراحة والطمأنينة والاستقرار؟ أم أنه يكون حيث يسكن الأهل والأحباء؟ يعرّف الأديب الشهير نجيب محفوظ وطن المرء بأنه ليس مكان ولادته، ولكنه المكان الذي تنتهي فيه كل محاولاته للهروب. فكيف نسمي لبنان وطننا، وهو الذي انطلقت منه أولى محاولات هروبنا؟ 

    وكيف لا نسعى للهروب ونحن نعيش في بلد أصبح التغيير فيه مستحيلا، والحلول للأزمات المتعاقبة باتت رهنا بإرادة هذه الدولة أو تلك؟ فبعد ثلاثين عاما على انتهاء الحرب الأهلية ونشأة التركيبة السياسية الحالية، تبين للبنانيين أن اقتصادهم الريعي المزيف لم يكن ليعش طويلا، وتحولت أحلام هذه الأمة إلى قصور من رمال. الحرب السورية أنهكت قطاع التجارة، وعقوبات دولية هزت القطاع المصرفي، ناهيك عن فساد متجذر نخر في هيكل الدولة المبني أصلا على أسس متداعية، وما عدا ذلك من عوامل داخلية وخارجية أدخلت لبنان في نفق مظلم لم يظهر أي بصيص نور لنهايته بعد

   والخطر، كل الخطر في الأزمات التي تواجه لبنان، لا يكمن في الانقطاع والغلاء الفاحش للموارد الأساسية وحرمان المواطن من أبسط حقوقه فحسب، بل في النتائج طويلة الأمد لهذه الأزمات. فالوضع الاقتصادي والنقدي المتردي دفع بآلاف الأطباء والممرضين والعاملين في الطواقم الطبية إلى الهجرة، وضرب قطاع الاستشفاء الذي حافظ على سمعة مميزة في المنطقة لفترة طويلة، وترك قطاع التعليم في حالة يرثى لها. كما أن الأزمة النقدية المستجدة أفقدت القطاع المصرفي الثقة التي كانت عاملا أساسيا في تطور حصة ومساهمة هذا القطاع في الاقتصاد اللبناني

     وبينما تجني الأجيال السابقة ثمار ولاءاتها وخياراتها الانتخابية والسياسية الخاطئة التي ساهمت في إيصال البلاد إلى هذا الدرك من الانحدار، يدفع جيل الشباب مستقبله بين أهله ثمن ما لم تقترفه يداه. يعيش هذا الجيل اليوم في جو يسوده القلق والتوتر نتيجة الانهيار المتسارع والمتواصل للوضع الاقتصادي وغلاء المعيشة غير المحمول وتسجيل معدلات البطالة أرقاما قياسية. وما يزيد الوضع سوءا ويضع مستقبل الشباب على المحك هو الزيادة الهائلة للأقساط الجامعية والمعاهد الخاصة في ظل غياب خطة لدعم التعليم العالي الرسمي، بل على العكس، فإن السلطات مستمرة في سياسة تدمير هذا القطاع من خلال إضعاف الجامعة اللبنانية وإغراقها بجميع أنواع الفساد والمحسوبيات، الأمر الذي كاد أن يؤدي مؤخرا إلى توقفها عن العمل. ولأن المصائب لا تأتي فرادة، فقد تسببت الأزمة النقدية الحادة باحتجاز أموال اللبنانيين في المصارف التجارية وزيادة الأعباء الملقاة على كاهل الطلاب و ذويهم. هذا بالإضافة إلى الغياب الكامل للنقل العام المشترك وعدم وجود خطة لتأمين نقل الطلاب إلى الجامعات كما وغياب الخطة البديلة القائمة على التعليم عن بعد بسبب ضعف البنى التحتية الضرورية لذلك وأزمة الفيول والكهرباء. هذه العوامل وسواها أضعفت قطاع التعليم الذي يعاني أصلا نتيجة الهجرة الكثيفة للكفاءات الأكاديمية، وقلة الدعم والتمويل المقدم للأبحاث والمشاريع في هذا المجال. من ناحية ثانية، أوصد الركود الاقتصادي أبواب سوق العمل أمام الشباب، وترك لهم حلان يتيمان لا ثالث لهما: البقاء في لبنان والتمسك بالأمل الكاذب بتحقق المعجزة التي ستنتشله من أزماته، أو الهجرة لمن استطاع إليها سبيلا

     أضحت موجات الهجرة الكثيفة عادة بالنسبة للبنانيين، تطل علينا كل عقد تقريبا، لتأخذ معها ما في البلد من كفاءات ومهارات، ولا تهدأ إلا لتعود وترتفع من جديد، تحركها عواصف الأزمات السياسية أو الاقتصادية المتنوعة. فبين الحرب الأهلية، والأزمة النقدية أواخر الثمانينات والأزمات السياسية والاقتصادية في بداية الألفية الثالثة، ثلاثة أجيال أو أكثر، تركت لبنان بحثا عن الاستقرار والطمأنينة. أما من بقي وصمد في بلده، فهو يصارع اليوم من أجل الحصول على أبسط حقوقه، من طعام ووظيفة وكهرباء وانترنت وبنزين، أو يحزم أمتعته ويتحضر للحاق بمن سبقوه بحثا عن وطنٍ تنتهي فيه محاولاته للهروب