كاتب | زكريا الشهاري

لم يتغير حال لهجتي ونطقي للأحرف كثيرًا بعد مرور أربعة أعوام ونصف هنا في بيروت وفي الجامعة الأمريكية في بيروت، لا يزال من السهل معرفة أني لست من لبنان عند نطقي لأول حرفين سواء كان ذلك باللغة العربية أو الإنجليزية، ولكن الذي تغير في هذه الأشهر الأخيرة هي ردات الفعل عندما أجيب عن السؤال ب”أنا من اليمن”.

أذكر في عامي الأول، عندما كنت أسأل هذا السؤال، كان اليمن مثخن بالجروح والحروب، عرفت العجب العجاب، وتساءلت كيف نجح بعض من زملائي في مواد التاريخ، واللغة العربية، والجغرافيا. أذكر أحدهم يسألني بكل جدية: “تقع اليمن في أمريكا الجنوبية، صح؟”، وفي مرةً أخرى وبعد محادثة طويلة باللغة العربية، سألتني إحداهن: “هل تتكلمون العربية في اليمن؟!” والكثير من هذه المواقف التي تحملني على الضحك والاستغراب. في خارج جدران الجامعة كان الأمر مختلفًا قليلاً، فبالنسبة لسائقي سيارات الأجرة، كانت ردات الفعل تتنوع بين مديح “صمود اليمن” والدعوات بنهاية الحرب، وسؤالي “أنت حوثي؟” أو “فين اليمن بالضبط؟”.

وفي بلد كلبنان، بلدٌ قطعته الطائفية والسياسة، أصبح من السهل بالنسبة لي، بعد مرور بعض الوقت، معرفة الهوية المذهبية والسياسية للشخص الذي يتحدث معي من ردة فعله على جوابي، وبالتأكيد لم يخلُ هذا الأمر من بعض العنصرية والتمييز هنا وهناك من بعض الأشخاص. ونصحني بعض الأصدقاء بمحاولة تغيير لهجتي أكثر لكي لا أتعرض لمثل هذا، ولكن لهجتي كانت بكل بساطة طريقة سهلة لمعرفة معادن الناس، والابتعاد بكل سهولة عن الأشخاص المصابين بداء العنصرية، بل وجعلت الأمر متعة شخصية بالنسبة لي، فعندما أسأل: “دخلك أنت من وين؟”، يكون ردي “احزري/احزر!”، وهنا تبدأ اللعبة، بل وأعمل على أن أضيعهم بمحاولات التحدث بأكثر من لهجة، ولكني لا أفلح كثيرًا فأنا يمني، ولساني يمني، ويتملك الكثير من عناد اليمني ولا يتغير.

ولكن من بعد السابع من أكتوبر، ومن بعد أن تدخل الفصيل اليمني المسلح – وكل فصيل في اليمن مسلح – أنصار الله أو “الحوثيين”، وهم السلطة على أرض الواقع في شمال اليمن، وأعلنوا عن قطع الملاحة البحرية في وجه السفن الإسرائيلية أو المتجهة إلى الموانئ الفلسطينية المحتلة، وهذا وإن أحببتهم أم كرهتهم، أتفقت معهم أم لم تتفق، قاموا به لكي تكون دعاية لهم في الشارع العربي أم من أجل أهل غزة، غير تمامًا ردة فعل الناس حولي عند الإجابة على السؤال ب”أنا من اليمن”. فردات الفعل تنقسم بين فئة قليلة يقولون أن “الحوثيين يورطون اليمن في حرب ليست حربهم”، وأغلبية ترد ب”الله يحيي اليمن ورجال اليمن”.

لا أكذب أني لا أشعر بالفخر عندما أتلقى هذا المديح، ولست أنا الموجود في عرض البحر، ولست في اليمن حتى، ولكن عندما أراد ذلك الغزاوي تقبيل رأسي، وعندما دعت لي ولأهلي ولليمن امرأة طاعنة في السن هجرها قصف الاحتلال من جنوب لبنان، أو زميل يثني على اليمنيين ونحن نجري في الحرم الجامعي لكي لا نتأخر على الصف، أشعر بالفخر، وأتساءل في نفسي ماذا لو توحد اليمن، وتوحد العرب، ماذا لو؟

أنني أقول دائمًا أننا نحن اليمنيون لا نتفق في شيء، نختلف في اللهجات والأكل وفن العمارة والغناء، بل وحتى طريقة عمل القهوة ومضغ القات، ولكننا كنا ولا نزال جميعًا، نقف مع فلسطين ومع وقف الاحتلال وحق العودة، وأن فرح الغزاوي والمرأة العجوز وزميلي، ينبع عن حاجتنا نحن العرب بالشعور بالقوة، وأننا جزء من معادلة الحياة على هذا الكوكب، وأن الدم العربي ليس رخيصًا بعد قرن وربع القرن من استرخاص الدم العربي، دعونا نتذكر أن الدم العربي واحد، وأن الوطن العربي واحد، وأن اللبناني والفلسطيني واليمني عندما يسألون في الغرب “من أين أنت؟”، ثم يرد كلٌ بأسم بلده، سوف يرد عليهم ب”آه، أنت عربي”.