روزا كالوت |  محررة

لعلها خامس مسودة اكتب، ولا أجد إلى الحين أن القريحة قد فاضت كي تستحق الكلمات القراءة. كل شيء أضاعني، أجدني تائهة في وجود جل ما يقوم به، ظلم وتنكيل بالضعيف، لا ابتكار فيه كي أفرح القارئ فلقد اعتاد عليه. أفتح الهاتف قليلاً لأتصفح ال-“instagram”، أو استلهم منه، لكن دون جدوى، فالصور والأحداث ذاتها تتكرر من جديد. لا إلهام يراودني كلما أوشكت على الكتابة، فالألم يكمشني كلما استذكرت المباني المهدمة والشوارع الخالية، في حين انظر إلى الأنيقة منها. وكلما افتتحت الدفتر، وطاح القلم عليه لأنسج تلك الأفكار، لانكسرت الابرة أو انقطع الخيط، فإني اتخبط بين الواقع والحروف، واستصغر نفسي، إذ المشاهد، رغم تكرارها، تروي القصص دون عناء الخطوط. 

لذا، لن اكتب أياً من ” أشلاء”، “دماء”، و “أم كامل” لا تفارق الأجواء، وأبدأ بالتوصيف الممل بأحداث غزة والجنوب، فكلنا نعرفها، ومثلما يقولون” ما رح حرر القدس”. وبغض النظر، فإن ذلك لا يفي حق أطفال، تفقد أهلها كل يوم، أو يفتقدها احباؤها، يتمت، وشردت، وفقدت حقوقها. ونحن طبعاً هنا، نعتاد المشاهد، وفي كل يوم نمارس “فن اللامبالاة”، بإعجاب على ال “post”، و”follow” على مواقع التواصل، كي نعلم المضطهدين في الأنحاء، أننا دائماً بجانبهم، نساندهم، وندين طبعا أعداءهم. 

 وعلى ذكر كل هذا “الاعتياد”، فإنا خلال الخمسة أعوام الماضية، لم نعتد المشاهد وحسب، بل اعتدنا ما يكفي من التاريخ أيضاً. حيث حجرنا “covid” في منازلنا، لا نرى من الأحبة أحدهم، حدودنا عتبة المنزل، نلقي التحية على الجيران من النوافذ، وهواتفنا في أيادينا، “منزل” post على مواقع التواصل، ونكافح بذلك لأجل البقاء. وهنا أتت 2020, حملات “blacklives matter”، و-“أريد التنفس”، اجتاحت الأرض، ونحن إلى الحين لا نقدر على شم الهواء والتحرر. وفي الواحد والعشرين من بعد الألفين، هببنا جميعنا نصرة ل “حي الشيخ جراح”، وبقيت ال “stories” في الأرشيف، دون أي من التحرير، فقتل من قتل، وشرد من شرد. نطوي عاماً بعد عام، وهبت إلينا ل-2022, اعذروني، فلا استذكر منها أي شيء، سوى إضرابات، وتوقيف تعليم، وحملات ضد الاساتذة والدولة، منتظرين فرج العودة للمدارس، “على أساس رح يتغير شي”. لنستقبل ال 23 بزلزال تركيا وسوريا، أسرفت فيها عن الاف من شهداء الكوارث الطبيعية، ولم يكن باستطاعتنا سوى بالتضامن معهم عبر التواصل. واليوم، وكل ما عشناه من ألام وجروح في السنوات الماضية، فإنا نعيش الأحداث نفسها ولكن بزمن مختلف، وأناس اخرين، وأماكن “غير”. إذ ننحجر في منازلنا خشية القصف علينا بالشوارع، الا أن المسيرة اليوم لا يسلم منها من في الشوارع والبيوت. نطالب بالتنفس، فالفسفور يقتلنا، ولكن القيود على الأعناق تخنقنا، وعن أي الزلازل نتحدث في حين أن الصواريخ تخسف الأرض، تدمر، تقتل وتنفي. وإن نسينا فيضانات الأمس، فاليوم تفيض الأرض بدماء شهدائها، ترتوي بهم، وتحضن اشلاءهم. ونحن طبعا، مع كل الظروف، خارج التغطية، نكون داخلها إن أردنا المشاركة بصور المعذبين، ونغمض أعيننا لحرقة الوجع الذي أصابهم. روتين تعودنا عليه، كما اعتدنا المشاهد. فقد باتت الحركة اليوم، نصرة لغزة والجنوب تخف شيئا فشيئا، كأنه خلصت ال-“trend” مثل اخواتها من الاحداث الإنسانية العالمية، بانين افكارنا على أساس “ما في شي بقدم وبأخر”.

تَمَهَّلْ يا عزيزي ولتَعْلَمْ 

                أنَّكَ ميِّتٌ إنْ تعَّودْتَ المَشاهِدْ 

لا تَكُنْ أعمى وأبكم مثل الصَّنَمْ 

فَصَمْتُكَ يَقْتُلُ كُلَّ يومٍ لا يُسانِدْ 

وماذا لو بدَّلَ التّاريخُ أَحْداثَ القَدَرْ 

وَكُنتَ انتَ من يُقْتلُ وبَلَدُكَ يُدَمَّرْ 

بِمَنْ تَستغيثُ حينها 

فأنتَ مِن قبل ذلك اهملتها 

أوفي دَيْنكَ على شعوب يُهْتكُ حَقُّها 

كَيْ لا يغدُركَ التاريخ وبعدها 

فيكَ تُعتادُ المشاهدْ.