علي عساف | محرر

     من ظنّ يومًا أنّ أبواب الأقصى ستبقى موصدةً أمام أبنائها، مفاتيحها في قبضة العدو، والعدو يلوّح بها أمام أنظار المستضعَفين؟ من ظنّ يومًا أنّ ساحات الأقصى لن تصدح مجدّدًا بصيحات الأطفال ودعوات المؤمنين؟ من ظنّ أنّ الشعب المذبوح لن ينهض بإرادة المسلوب حرّيته وكرامته لينفض آثار المستوطنين عن جباه الوطنيّين؟ حلّ الثامن من أكتوبر حلمًا طال انتظاره، كابوسًا استحال حصوله، فالدم الفلسطينيّ لا يُهرقُ سُدًى طالما أنّ الضمير الإنسانيّ حيّ في بعض النفوس لا يموت. تقدّم الفلسطنيّون، زفّت القدس فرحتها بجهود أبنائها وسجّلت في التاريخ بصمتها، لكنّ ذلك لم يدم. أيام قليلة حتّى أعاد العدو سطوته على البلدات المحاصَرة، فرض حصارًا شاملًا على قطاع غزّة قاطعًا عنها جميع مقوّمات الحياة. دون ماء أو غذاء أو كهرباء باتت غزّة رهن مصيرها بالفناء في ظلّ أعنف قصفٍ منذ النكبة. آلاف الأرواح لاقت مصرعها، حتّى الأطفال لم يسلَموا واقعة الحرب أو ما يُصطلح تسميتها بالإبادة الجماعيّة.

    لم يحترم الإسرائيليّ أخلاقيّات الحرب، نكث المواثيق الدّوليّة، وتسلّح بمسمى حقّ الدفاع عن النفس. فضلًا عن استهداف المدنيين والأحياء الشعبيّة، تجرّأ الإسرائيليّ على قتل الأطفال واستهداف الطواقم الطبّيّة والبنى الصحّيّة تحت مرأى المجتمع الدوليّ الذي قلّما حرّك ساكنًا. أمام هول الجرائم الإسرائيليّة ومحدوديّة سبل المساعدة، انتاب الفرد المناصر للقضيّة الفلسطينيّة شعورٌ بالذنب والضعف دفعاه لإيجاد وسيلة ليتضامن بها. عندها، تجدّدت بقوّة دعوات مقاطعة منتجات الشركات العالميّة “الداعمة” لإسرائيل. بالرغم من أنّ هذا التوجّه المدعوم عالميّا عبر حركة مقاطعة إسرائيل (BDS) يعكس وعيًا متزايدًا لدى الشعوب العربيّة وأيضًا الأجنبيّة بحقيقة الاحتلال وأحقيّة فلسطين بالأرض، فإنّ هذه الدعوة تطرح العديد من علامات الاستفهام لا بدّ من التطرّق إليها بغية التصحيح والتصويب. فما هي المعايير المتّبعة في المقاطعة هذه؟ وما مدى جدواها في خدمة القضية؟ هل في المقاطعة إرضاء لشعورنا بالذنب وتحدٍّ لمحدوديّة دورنا في التأثير على عدو جبّار مدعوم دوليّا؟ أم فيها تشويه لجوهر القضيّة؟

   من المريب ألّا توجد معايير واضحة وموحّدة لتصنيف الشركات والمؤسسات بين معاديةٍ ومناصرةٍ للقضيّة، فتكون عشوائيّة الاختيار ممّا ينعكس سلبًا على البلد الأم بشكل هائل. تدّعيBDS  أنّها تتّبع أسلوب المقاطعة المستهدفة “لعددٍ صغير من الشركات والمنتجات لتحقيق أقصى تأثيرٍ ممكن.” بالرغم من أنّ هذه الحركة تحدّد 24 شركة على الأقل لمقاطعتها، تنتشر على مواقع التواصل الاجتماعيّ لائحات تضمّ مئات الشركات. وعند مقارنة قائمة الحركة بتقرير يضم 112 شركة متواطئة مع الاحتلال صدر عن هيئة الأمم المتحدة عام 2020، نلحظ أنّ شركة واحدة فقط تتوالى في القائمتين. فدعوات الحركة غير دقيقة، لا تتطابق مع دراسات منظمات دولية مرموقة أو تؤثّر بالناس، حتّى باتت المقاطعة عشوائيّة تائهة في قوائم الشركات. أمّا حركة المقاطعة اللبنانيّة (CBSI) فتتّبع معايير أكثر شموليّة لا تتوافق مع المعايير الدوليّة التي ترجع إليها BDS. ففي حين تدعو CBSI لمقاطعة أديداس لعقدها اتفاقيات مع شركات إسرائيليّة لتصنيع الألبسة، رفعت BDS الحظر عنها بعدما أنهت أديداس رعايتها للمنتخب الإسرائيلي، بينما التزمت الشركة بإدانتها لعمليّة “الإعتداء” في الثامن من أكتوبر. فضلًا عن ذلك، من بين الشركات المقاطعَة لدى BDS نجد ماكدونالدز وكارفور. تُقاطع الأولى لأنّ ماكدونالدز-إسرائيل قام بتقديم وجبات وتبرعات للجيش الإسرائيلي، أمّا كارفور-إسرائيل فعقد شراكة مع إلكترا، شركة تنظّم المستوطنات. ولكن يجب الإشارة إلى أنّ لا علاقة للشركة الأم بالفروع العالمية إذ إنّها تكون لشركات وطنيّة تتمتّع بحقّ الامتياز التجاري عبر استئجار العلامة التجاريّة والخبرات فقط وتخصيص نسبة 4-8% من المبيعات (لا الأرباح اي أنّ انهيار الفرع العالمي قلّما يعود بالضرر على الشركة الأمّ). وبالرغم من توضيح ذلك عبر تقرير نشره ماكدونالدز-لبنان التابع لشركة ماكنز اللبنانيّة، ظلّت دعوات المقاطعة مستمرّة ممّا قد يدفع الشركة لتقليص عدد فروعها في لبنان وبالتالي خسارة العمال للوظائف. كذلك الأمر مع الشركات المماثلة حتّى ينخفض مؤشر الإستثمار في البلد ويتراجع النمو الاقتصادي. الشركة الأم (وإن كانت مَعنيّة بالمقاطعة) لن تتأثر بالمقاطعة بل الشركات الوطنيّة الراعية للعلامات التجاريّة العالميّة.

    وليست الأخبار المضلّلة التي تشيد بدور المقاطعة في تكبيد الشركات الخسائر والتأثير في قرراتها إلا كاذبة وغير دقيقة، تستدعي تصحيحها. مقتتفات عدة تتناقلها وسائل التواصل الاجتماعي عن تراجع حال الشركات المُقاطَعة بهدف الترويج للمقاطعة ولمّ الزخم الشعبي. عند فسخ شركة بوما (بعد إحلالها بديلًا عن أديداس) المُقاطَعةِ عقدها مع المنتخب الإسرائيلي لكرة القدم، اعتبر المقاطِعون و حركة BDS أنّ بوما رضخت للضغط المفروض عليها عبر الحملة لكنّ الشركة أكدت أنّ القرار كان قد أُتخذ قبل اندلاع الحرب ثمرةَ سنين من محاولات فاشلة لحل النزاعات القائمة في عقد الرعاية. ومن أبرز “الانجازات” التي يحتفي بها المقاطعون نجاحهم في تكبيد ستاربكس خسائر بقيمة 11 مليار دولار. بالرغم من أنّ هذا التراجع في القيمة السوقيّة صحيح إلّا أنّ أسبابه تبقى غير واضحة، فتمسّك الحركة بهذا المثال (وهو الوحيد) غير دقيق ومضلّل للحقائق. أوّلا، أسهم ستاربكس كانت تتراجع في السنوات الأخيرة، واعتبار المقاطعة عامل مساعد في تراجع الشركة غير مدعوم بدلائل ملموسة، فدعوات المقاطعة الرقميّة لا يمكن قياس مدى تطبيقها على أرض الواقع. ثانيًا، وإن اعتبرنا المقاطعة وراء الخسائر، فلا يمكننا تحديد الجهة المُقاطِعة: أهي إسرائيل أم مناصرو فلسطين؟! نعم، لقد تعرّضت الشركة لهجوم من كلا الطرفين. فبعد إعلان “اتحاد عمال ستاربكس” (وهو اتحاد يضمّ جزءا من عمّال ستاربكس للمطالبة بمستوى عمل أفضل) مناصرته لفلسطين عبر تغريدة (حُذفت فورًا لكونها لا تمثّل أعضاء النقابة أجمعين)، علت الأصوات الإسرائيليّة المندّدة متهمةً الشركة بمعاداة السامية. عندها قررت الشركة مقاضاة الاتحاد لانتحاله العلامة التجارية لستاربكس وتسبّبه بتضليل الناس لاعتبارهم الاتحاد ممثلًا عن الشركة. ونتيجة الدعاوى التي صوّرها المناصرون على أنّها طعنٌ بالقضية الفلسطينيّة، توسّعت رقعة المقاطعة لتشمل الطرف الفلسطيني بالرغم من محاولة الشركة التمسّك بمبدأ الحياد. وفي ظلّ الإضرابات الهائلة للعمال الغاضبين في البلد الأمّ، والمقاطعة العالميّة للعلامة، تأثّرت الشركة الأمّ اقتصاديّا. ولكن يجب تسليط الضوء على المضحك المبكي في قضيّة ستاربكس، وهو أنّ هذه الشركة الأكثر رواجًا وتداولًا في دعوات المقاطعة لم تشملها أيّ من BDS وCBSI ضمن لوائح المقاطعة إذ لم يجدوا ما يربطها مباشرةً وغير مباشرة بسلطة الإحتلال. وهنا نعيد طرح ما يلي: إن كانت هذه الحركات الأكثر تأثيرًا في المقاطعين، لمَ يجهل الجميع نتائج “أبحاث التحرّي” التي تُجريها؟ وما يزيد الأمر التباسًا وعشوائيّة حثّ موقع “بدناش” على مقاطعة ستاربكس. فكيف نقود مقاطعة دون مفهوم موحّد للتطبيع؟  يبدو أنّ ستاربكس حالة معقّدة لا يمكن عزل عواملها المتداخلة عن بعضها، ولكن إذا درسنا الواقع الاقتصادي لشركات أخرى مُقاطَعة نلحظ استقرارًا وارتفاعًا في سعر الأسهم، فقد ارتفع سهم ماكدونالدز (الأم) منذ بداية الحرب بأكثر من عشرة دولارات للسهم الواحد رغم تعرّضها لمقاطعة ليست أقلّ شراسة ممّا واجهته ستاربكس. فأي أثر ترومه المقاطعة؟

بالإضافة إلى ذلك، نلحظ انتقائيّة نسبيّة للمنتجات حسب حاجات الفرد بين أساسيّات وكماليّات بغض النظر عن مصدرها أكانت لشركات يجب مقاطعتها أم لم تكن. قد تتفاجأ لرؤية شخص “مُقاطِع” يحمل هاتف آيفون ويقود سيارة هيونداي أو مرسيدس إلى مكتبه المجهّز بكمبيوتر HP والموصول بخدمات ميكروسوفت وأنفيديا، ولكن هو نفسه يرفض أبدًا وجبة طعام من ماكدونالدز أو قهوة ستاربكس. عَمليًّا، يلجأ الأفراد إلى مقاطعة الشركات التي لا يستهلكون منتجاتها أصلًا أو التي يمكن استبدالها بغيرها دون أن يطرأ تغيير في نمط حياتهم. بالرغم من أنّ شركة آبل يتوجب مقاطعتها نتيجة موقفها العلني المناهض حيث عبّر رئيسها التنفيذي عن أسفه لآلام الشعب الإسرائيلي عقب “الاعتداءات الفلسطينية،” يتجاهل المتداولون هذه الدعوة كيلا يتخلوا عن هواتفهم. فلو كانت هذه المقاطعة صادقة لحطّم الناس مشترياتهم المُقاطَعة لأنّ هذه الحركة أيضًا برمزيّتها وتعاطفها مع الشعب المحروم والمذلول. إنّ هذه المقاطعة غير شاملة بل محدودة بما يحافظ على رفاهيّة الأفراد، فأيّ تضحياتٍ نقدّمها لهذه القضيّة العربيّة القوميّة التي تصبّ في قالب اهتماماتنا (كما ندّعي)؟ هل هذه المقاطعة صادقة الجوهر في توجهاتها أم مجرّد وسيلة لنوهم أنفسنا بمبادراتنا “الخيّرة”؟!

    طبيعة إقتصادنا وحركة صادراتنا ووارداتنا تحول أيضًا دون مقاطعة فعّالة شاملة، وإن التزمنا بمعايير مقاطعة شفّافة وباستعداديّة كاملة. لطالما كان الاقتصاد اللبنانيّ ريعيّا غير منتج يعتمد على الواردات الخارجيّة لتلبية حاجة الاستهلاك المحليّ، وبما أنّ قطاعيّ الزراعة والصناعة ضعيفان لحاجاتهما للمواد الأوليّة المستوردة والآلات والمعدات وموارد الطاقة، فقدرة الانتاج الوطني على الاكتفاء الذاتي دون الواردات معدومة. كما أنّ الانتاج الوطني، بالرغم من أنّه محليّ الصنع، يصعب اعتباره لبنانيّا بالكامل لأنّ معظم ما يدخل في عمليّة الإنتاج مستورد كمواد أوليّة وموارد الطاقة. فكيف نضمن أنّ شتّى الواردات الجزئيّة غير مُقاطَعة، في حين حاجتنا إليها ضروريّة وأساسيّة ومتنوّعة تفرض علينا الرضوخ لشركاتها؟ فحاجتنا للوقود خير دليل، حيث إنّ شركة توزيع الوقود Hypco المنتشرة محطاتها بكثافة على الأراضي اللبنانيّة تستورد الوقود من شركة Shell العالميّة، ولكن هذه نفسها تزوّد شركة  Mediterranean Fuels، أكبر موزّع للوقود والزيوت في إسرائيل، ما يجعلها شريكة بالإبادة الجماعيّة، ولكن هل يمكننا أن نقاطع محطات الوقود؟ بين مقاطعة واضحة واقعيّة ومقاطعة حقيقيّة الجوهر والتوجّه تضيع الدعوة في دوّامة من العبثيّة.

    لكنّ المعيب هو إقدام بعض الشركات على استغلال مبدأ المقاطعة عبر المتاجرة بالقضيّة الفلسطينيّة لغايات تنافسيّة. بعضها يلجا إلى تبني طرف يتماهى مع غرائز الناس، وقد يعتدل بعضها صونًا لمصالحها وصورتها، فالعدول عن التحيّز حق لها، ولكنّ كسب الأرباح على حساب دم الأبرياء طعن بالقضيّة. في 11 ديسمبر، إزاء النداء العالمي للإضراب من أجل فلسطين، قرّر ماكدونالدز-لبنان الالتزام بالدعوة في ظلّ حملة المقاطعة الشرسة عليه، هذا الإجراء وإقدامه على التبرّع بآلاف الدولارات لغزة (فقط بعد الحملة) محاولة منه لتجميل صورته لا وفاءً للقضية. ولكن في حين التزمت الشركات المُقاطَعة بالإضراب، غضّت الشركات اللبنانيّة الأصليّة النظر، كأنّ القضية لا تعنيها، وبالرغم من ذلك، لم يتذمرّ “المُقاطِعون” على مواقع التواصل الاجتماعي استنكارًا. فأليست مقاطعتنا هذه إلّا ركوب لموجة ترندات لا تخدم القضيّة بل تشوّهها؟ ما سرّ هذه الإزدواجيّة في التعاطي مع الشركات؟ هل للمقاطعة طيّات سياسيّة أبعد من القضيّة الفلسطينيّة؟

    المقاطعة، بعشوائيّتها واستحالة تطبيقها بشكل جذري وحقيقي، تدفعنا لإعادة النظر بالهدف المرتجى. مساندة الشعب الفلسطيني تحتاج انتماءً للقضيّة بحيث إنّ الدفاع عنها ليس اعتكافًا عن الشراء أو العمل فحسب تعاطفًا مع الشعب، بل لعلّه موقف عربي موحّد بمحاربة العدو وفض اتّفاقيّات التطبيع. المقاطعة قد تهزّ ميزانيّات الشركات لكنها لن تهزّ عرش عدو يقتات من تخاذل العرب ونفاقهم. فلنحارب أنظمتنا المتواطئة مع العدو قبل التشبّب بشعاراتٍ قلّما تحرّرت من عتق الورق…

https://bdsmovement.net/Act-Now-Against-These-Companies-Profiting-From-Genocide

https://www.ohchr.org/en/press-releases/2020/02/un-rights-office-issues-report-business-activities-related-settlements?LangID=E&NewsID=25542

https://www.timesofisrael.com/never-again-is-now-german-companies-condemn-hamas-terror-stand-with-israel/amp/

https://www.businesswire.com/news/home/20210618005324/en/Delta-Galil-and-adidas-Announce-License-Agreement-for-Men%E2%80%99s-and-Women%E2%80%99s-Underwear-Collection

https://time.com/6358215/puma-terminates-sponsorship-israel-soccer/

https://www.livemint.com/news/starbucks-faces-11-billion-value-loss-due-to-poor-sales-boycotts-amid-global-political-tensions-11701910146052.html

https://editor.cnnbusinessarabic.com/markets-news/41909/هل-تأثرت-أسهم-الشركات-بدعوات-المقاطعة-المنتشرة-منذ-اندلاع-صراع-غزة؟/