آمنة حلاوي | محرر

أسند الطفل جسده إلى حائط المستشفى وكلّ أعضائه ترتعب دون توقّف، وعيناه البريئتان تشِيان بالكثير من الخوف وتطرحان ألف سؤالٍ وسؤال عمّا حلّ به في غضون لحظات. إنّه ذاك الطفل الغزّاوي الذي نام واستفاق مذعورًا على صوت قصف الطائرات، والذي ما إن حضنه أحد الممرّضين، حتى شعر بشيء من الأمان فشرع بالبكاء.. ولكنّ وزارة الضحايا في قطاع العِزّة (وزارة الصحة – غزّة)، اليوم الخميس، أعلنت ارتفاع عدّاد شهداء الحرب الإسرائيلية التي شُنّت على القطاع إلى ما يقارب الـ21 ألف.. وبين كتابة هذا المقال ولحين نشره.. قد يتضاعف العدد.. ومن المؤكّد، أنّ قلّة قليلة من هؤلاء الألوف، قد حالفها الحظّ ووجدت من يحضنها..

مجزرة تلوَ الأخرى، وقصفٌ يتلوه آخر.. وعدّاد الشهداء في ارتفاع مستمرّ بوتيرة جنونيّة لا تُصدّق.. بل كلا! وتيرة جنونية باتت تُصدَّق وبشدّة بعد أن رأى كلّ العالم وحشيّة العدوّ الغاصب وقسوته.. يقتل الأطفال ويهاجم أقسام المواليد الخُدّج في المستشفيات..يقطع الماء والغذاء والحياة.. وطفلة جريحة تسأل: عمّو، هذا حلم ولا بجدّ؟ وعجزت بشريّةٌ كاملة عن الإجابة.. حلمك أيّها الطفلة لا ينبغي أن يكون سوى الحصول على ألعاب جديدة وفستان مطرّز بشتّى الألوان.. ولكن للأسف، فالمأساة والبؤسصارا واقعًا أليمًا تعيشينه..

وهُنا، ينبغي أن نقف قليلًا؛ ينبغي أن نقف لا لنحصي عدد الشهداء الجدد، فالناس ليسوا أعدادًا، بل أسماء ووجوه، ينبغي علينا أن نقف لنتعرّف إلى أحلامهم، إلى أمانيهم، وإلى طموحاتهم التي لطالما رغبوا أن يحقّقوها، وأن نقف لنحفظ صوت ضحكاتهم وبسمة وجوههم ولمعة أعينهم.. فهذا من حقّهم علينا، وأقلّ واجبنا تجاههم، نحن لا نملك سوى أن نحفظ كلماتهم وقصصهم لكي يبقى ذكرهم.. تلك فتاةٌ شابّة تُدعى لبنى، مليئة بالشغف وتحبّ الحياة، والشغف دافعٌ قويّ، كان يُهيجُ فيها وَلَهها ووَجْدهاللموسيقى، لتعاود عزفها على أوتار الكمان، لتمنحه الاتّكاء على كتِفها من جديد، لكنّ لبنى استشهدت مع عائلتها، وصرنا نحن من يبحث على قصّتها ليتّكئ عليها، لنخفّف وطأة الذنب عن أنفسنا.. وهناك دُفِن طفلٌ شهيدٌ يتيم الأب مذ وُلِد، كان مصابًا بعمى الألوان ويلوّن الدّم الأحمر بالأخضر.. مرّةً نال صفرًا في المدرسة، لأنّ المعلّمة قالت لهم ارسموا آباءَكم، ورسم هو حديقة كبيرة.. وعلى مقربةٍ من ركام منزل، دُفِن طفلٌ شهيدٌ يتيم، ذاع صيته مرّة في حيّه بعد أن سُمِع صوته وهو يصرخ لأمّه أمام باب البيت بينما كان ملطّخًا بالطين، يقول ماما، كيف يصنعنا الله من تراب وماء؟ علّميني.. أحاول صنع أبي منذ الصباح، ولا أستطيع.. وفي بقعة ليست ببعيدة عن مكتبتها، استشهدت شابّة كانت الكتب ملاذها.. تحلم أن تصير محامية يومًا، علّها تدافع عن حقّها باسترداد أرضها المسلوبة.. وكانت قد علّقت على باب غرفتها، بيت الشّعر الذي كثيرًا ما سمعناه في طفولتنا، وكبرنا نردّده على ألسنتنا في كثيرٍ من المناسبات:”إذا الشّعب يومًا أراد الحياة.. فلا بدّ أن يستجيب القدر.” واليوم، وعلى مرأى كلّ العالم، ها نحن أمام الشّعب الفلسطيني، نرى بأمّ أعيننا كيف أنّهم شعبٌيستحقّ الحياة، لكنّ الأحلام الكبيرة.. ضاقت كثيرًا، ضاقت.. حتّى ضاعت.. فهل سيستجيب لهم القدر وتنكسر قيودهم؟ أم أنّ أمانيهم، مراميهم، وأحلامهم نفذت؟

المؤكّد لدينا، أنّنا سنحاول جاهدين حفظ أسمائهم، لنحقّق أحلامهم، ولكنّ الأهمّ، أنّ ما ينبغي علينا فعله هو أن نحاول جاهدين لنحرّر أرضهم، وندحر قاتلهم، ونعيد بناء مدنهم، لتُحقّق فيها أحلامهم، وهذا التحرير لم يكن، ولن يكون يومًا حُلُمًا، بل هو وعدٌ إلهيّ وأمرٌ محتوم. وكما كتب اللواء الفكريّ المسلّح، الشهيد الذي عاد من الموت على شكل قلمٍ حُرٍّ وبندقيّة مقاومٍ وكلمة حقّ، غسّان كنفاني، الفكرة التي لا تموت، أنّ الإنسان في نهاية الأمر قضيّة، وقضيّة فلسطين ليست استعادة الذكريات.. بل هي صناعةٌ للمستقبل.