كيفن طنوس
يقول الكاتب سعيد يقطين ان “اللغة ثقافة، والثقافة لغة […]” ، فعندما يتعلّم الفرد لغة معيّنة، هذا لا يعني انّه بات باستطاعته ان يفهم اللغة ويتكلّمها فقط، بل يعني انّه تَعَرَّفَ على ثقافة وحضارة معيّنة. فاللغة تُطَوّر الثقافة، والعكس صحيح. ينطبق هذا المفهوم على كافة اللغات في العالم، من بينها اللغة العربيّة. إلّا أنَّ، مع مرور الوقت وتبلور العولمة، وكما ذكَرَ د. عيسى برهومة، تَزَعزَعَ اللسان العربي، وباتت اللغة المُهيمنة داخل مجتمع معيّن هي لغة الدولة الّتي تُهَيمِن. إذ تلعب العولمة والتطوّر والمدرسة والمنزل دوراً مهمّاً في إضعاف اللغة العربيّة، حيث أصبحت اللغة العربيّة-لغتنا الأم- لغة ثانوية في مجتمعنا.
بدايةً، منذ ولادة الطفل اللبناني على سبيل المثال، يكلِّمَهُ اهله غالباً لغة اجنبيّة كالإنكليزية والفرنسية؛ وإذا تكلّم اللغة العربيّة، فتكون العربية الدارجة وليس الفصحى. نتيجة لذلك، تكون اللغة الفصحى لغة يجب ان يتعلّمها الفرد ويكتسب قواعدها في المدرسة أو عبر وسائل الإعلام او الكتاب، وفقًا للكاتب سعيد يقطين. فكيف لطفل ان ينطق الفصحى ويتشجّع على تعلّمها، إذا لم يتربَّ عليها منذ صغره؟ من هنا، يلعب الأهل دوراً مهماً في تشجيع اولادهم على تكلّم العربية الفصحى، إذ هذه اللغة تجمع الشعوب العربيّة كافةً وتقرّب المسافات. لكن، للأهل سبباً في عدم استعمال اللغة العربيّة داخل البيت.
فمع تبلور العولمة، وسيطرة الأفكار والثقافة الغربية على العديد من المجتمعات، باتت اللغة الانكليزية لغة عالمية؛ وهيمنت هذه اللغة على معظم مجالات العلم والبحث العلمي والتقني، بالأخص في المجتمع العربي. إذ بات من الضروري على الفرد العربي اتقان اللغة الانكليزية للحصول على وظيفة محترمة؛ وإلّا قد يُنظر بانتقاص إلى الشخص، ولو كان حائزاً على شهادة علمية مرموقة، بسبب عدم إجادته للغة الإنكليزية، كما يشير د. عيسى برهومة؛ ويعود ذلك ربّما إلى أن اللغة الإنكليزية باتت تمثل نسبة ٨٠٪ من المعلومات الموجودة على الانترنت. إذن، لا يمكننا لَوم الأهل على تشجيع اولادهم ان يتعلّموا لغات اجنبيّة طالما هم يتعاملون مع الواقع. لكن، يشير د. برهومة الى أن “اللغة تحيا بالاستعمال”.
من هنا تلعب المدارس والمعاهد والجامعات وكافة المؤسسات التربوية دوراً مهمّاً في المحافظة على اللغة العربيّة واستمراريّتها. إذ، لا يُعقل ان تُنشأ اللغة العربيّة على لغتين، العربيّة والانكليزية، حيث إنه لا يُذكر أن دولة اجنبية تُدَرِّس مناهجها التعليميّة في لغة غير لغتها الأم، إلّا في مجتمعنا، كما يشير د. برهومة. ففي لبنان مثلاً، تُدَرَّس معظم المواد العلميّة باللغة الانكليزية او الفرنسيّة، باستثناء عدد قليل من المدارس الرسميّة الّتي تُدَرِّس مناهجها في اللغة العربيّة. فتدرّس اللّغة العربيّة كمادة لغويّة وادبيّة، وليس في المواد العلميّة. فهل يكون الحلّ في تقوية المدارس الرسمية وإلزام المدارس الخاصة في تدريس المواد العلمية باللغة العربية؟ ربّما؛ فيشير د. برهومة الى انّ “الخروج من التبعية اللغوية يجعلنا نستجمع قوانا اللغوية بالتدريس باللغة الأم، وإنتاج بحث علمي متطور بعيداً عن الهيمنة والضعف.” من هنا تأتي أهمية استعمال اللغة العربية في المجالات كافة من اجل الحفاظ عليها وضمان استمراريّتها.
فبالنسبة ل د. غسّان مراد “اللّغة العربيّة هي لغة علوم”. على سبيل المثال، يعتبر د. مراد انّه يجب ادخال “المعلوماتيّة” مثلاً الى بعض الكليّات، حيث يجب تدريسها باللغة العربيّة؛ فمن الممكن ان تكون اللغة العربيّة لغة برمجة. فاستناداً الى دراسة أجراها تلاميذ من جامعة بجاية بإشراف الأستاذ نعيمة عزي، قد بذلت جهود كثيرة في مجال البرمجة باللغة العربيّة، حيث قدّم العديد من الباحثين تصوّر وأساليب عدّة يمكن استعمالها لتنظيم وبرمجة الحاسوب ليعمل باللغة العربية. وتعمل بعد الهيئات العلمية (كمعهد الكويت للابحاث العلمية، معهد العلوم اللسانية والصوتية بالجزائر، الخ.)، من اجل تحقيق ذلك.
إذن، يعود ضعف اللغة العربية في عالمنا اليوم الى أسباب عدّة، أبرزها دور المنزل والمدرسة والعولمة. فلضمان استمراريّة هذه اللغة وتقويَتها، لا بدّ من زيادة استعمالها في المناهج المدرسية لتشمل العلوم كافةً، وليس فقط تدريسها كمادة لغوية داخل الصف. فإذا بُذلت الجهود في هذا المجال، تستطيع هذه اللغة ان تصبح لغة مهيمنة في مختلف التخصصات، حيث سيقرّب ذلك الشعوب العربيّة من بعضها، ويقوّي العالم العربي ليصبح عالم ينتج ويصدّر المعلومات، ولا يستوردها فحسب. بالتالي، سيُطَوِّر ذلك من الحضارة والثقافة العربية، ويجعل من العالم العربي عالم مواكب للتطوّر والابتكار. فكما قال الكاتب سعيد يقطين، “اللغة ثقافة، والثقافة لغة، ولا يمكن لأي منهما أن يتطور بمنأى عن الآخر