بتول سويدان
علم الجبر هو فرع من الفروع الثلاثة الرئيسة في الرياضيات. يقوم على إحلال الرّموز محلّ الأعداد المجهولة أو المعلومة لتفسير العلاقات والكميّات والمتغيّرات. استلّ اسمه من كتاب العالم العربيّ محمد بن موسى الخوارزمي، وكان عنوانه (كتاب الجبر والمقابلة). والذي حظي مؤلفه بسببه بلقب “أبو الجبر” الذي يتقاسمه مع نظيره اليوناني ديوفنطس الاسكندري.
أتت ولادة هذا العلم في العصر العبّاسيّ نتيجة تزاوج بين علمي الهندسة والحساب. وهذان الأخيران ورثهما العرب عن اليونانيين الذين ورثوهما عن رياضيات الحضارات القديمة, لا سيّما الحضارة البابليّة. أمّا (الجبر) ككلمة, وكما ذكرنا سابقا، لم يكن لها وجود في هذه الحضارات الى أن ابتدعها الخوارزمي وعرّف أساسياتها لأوّل مرّة. فكان هو أوّل من عامل المعادلات والمجاهيل وكثيرات الحدود على أنّها كائنات رياضيّة منفردة بذاتها. وهو ما فتح الباب على تيّار من الأبحاث الرياضيّة تولّاها معاصروه وما خلفه من علماء الى يومنا وساعتنا هذه. إنّ الخوارزمي، بما طرحه من فكر سبّاق، وضع أبجديّة العلوم الجبريّة لا سيّما عند تطرّقه لقواعد الفصلين الأساسيين من هذا العلم وهما: الحلول الجذرية (radical solutions) للمعادلات كثيرة الحدود، والحسابات كثيرة الحدود ( polynomial calculations).
وكما الحال في جميع مراحل التّاريخ، فإنّ اختلافات عديدة وجدت حول من هو المؤسس الحقيقي لعلم الجبر. كثير منها، بطبيعة الحال، متطرّف أيّما تطرف. ولو وضع الجهد المبذول على إثبات صحّتها، على تطوير علم الجبر نفسه لكان أشفى وأنجع حالا. فمثلا، لدينا القائلون بأنّ العرب لم يضيفوا شيئا الى مسار العلوم الحديثة، بل كانو ممن جمعوا آثار ما قبلهم فقط. والمتبنون لهذا الرأي أكثرهم ممن أسس الدراسات التاريخية للعلوم الحديثة في أوروبا في القرن التاسع عشر. في مقابل هذا الافتراء نرى افتراءا ولغوا من نوع آخر. فمن الناس من يريد حصر العلوم بالعلماء العرب كأنّهم اكتشفوا كل شيء. ولا يجمع هذان الرأيان سوى تشاركهما عدم الصحة والبعد عن عين الحقيقة. فما من علم حديث قام على يد حضارة واحدة، بل إنّ العلوم التي ندرسها اليوم ما كانت لتقوم لولا تلاقح الحضارات فيما بينها، وانتهالها من موارد بعضها بعضا.
بالعودة الى علم الجبر، فإن الآراء حول تأسيسه أربعة: رأي قائل بأنّه أسس على أيد عربية أو على أيدي العلماء الاجانب الذين درسوا وكتبوا بالعربية في ذلك الزمن كالفارسيين مثلا. والثاني أنّ التأسيس أتى من قَبل الخوارزمي على يد اليونانيين القدم كقليديس وديوفانطس. والرأيان الباقيان هما الأقل حظا، قائلان بأن ولادة الجبر كانت في الهند أو بابل، أو أنها لم تكن في أي من الاقطار المذكورة سابقا بل كانت في أوروبا عند “فييت” تحديدا في القرن السادس عشر.
الملاحظة الفصل هنا، هي أنّ ما قدمه الخوارزمي جاء مفصلا جدا، وحديثا جدا، كاستطراده لكل المعاملات كثيرة الحدود من الدرجة الاولى والثانية بكامل صورها وبتوصيف مفصّل وكامل لطريقة حلّها. أما كتاب ديوفنطس المعنون “أرثمتيكا”، فهو كتاب ليس في علم الجبر بل في المسائل العددية لكنّه يضمّ مسائل عدديّة أصعب وأكثر تشويقا من تلك الخوارزمية، بل واستخدم فيها بعضا من الاساليب الجبرية. غير أن الكتاب بأصله يبقى كتابا في المسائل العددية. كما وقد يؤثر على تلقينا ل “أرثمتيكا” حقيقة أنّ مترجمها العربي، قسطا بن لوقا، ترجمه مستخدما اصطلاحات رياضيّة عربيّة برزت في عصره الذي كان من أهمّ المؤثّرين فيه محمد بن موسى الخوارزمي. وأخيرا، فإنّ كتاب الأصول لقليدس ترجم للعربية في عصر الحاكم العباسي هارون الرشيد ويرجّح أنّ الخوارزمي قد قرأه وألهم به غير أنّه أيضا يبقى كتابا في الهندسة لا الجبر. ويقال أيضا أنّه ألهم بعلم المواريث في الدين الإسلامي وهو ما قد يكون صحيحا كجزء من تأثّره ببيئته، وهذا ما عبّر عنه في مقدمة كتابه حول دوافعة لكتابة هذا الكتاب قائلا:”…لما يلزم الناس من الحاجة إليه في مواريثهم ووصاياهم وفي مقاسماتهم وأحكامهم وتجارتهم، وفي جميع ما يتعاملون به بينهم من مساحة الأرضين وكرى الأنهار والهندسة… “
يبدو أنّ الخوارزمي لم يكن الوحيد الذي زارته خيالات علم الجبر فاستحدثه. لكنّة كان السّبّاق في جمع هذه الخيالات وإسقاطها في كتاب واحد منسّق ومفصّل لا زال الى يومنا هذا من أهمّ ما كُتب في علم الرياضيات. يؤكد على ذلك ويلخص حديثنا قول الدكتور علي مصطفى:” رغم الأبحاث المستفيضة في تاريخ الرياضيات عند الإغريق وعند الهنود لم نعثر على كتاب واحد يشبه كتاب الخوارزمي، وإنني أميل إلى الظن بأنه لم يكن قبل الخوارزمي علم يسمى علم الجبر، إذًا فعبقرية الخوارزمي قد تجلت في خلق علم من معلومات مشتتة وغير متماسكة، وتذكرنا هذه العبقرية بعبقرية السير إسحاق نيوتن الذي وضع علم الديناميكا أي علم حركة الأجسام، فإن كثيرًا من المعلومات الواردة في كتاب Principia لنيوتن كان معروفًا لأهل زمانه بل وقبل أهل زمانه، ولكن أحدًا قبله لم يقم بتنظيم شتات هذه المعلومات وصوغها في صورة علم منسق ذي وحدة ظاهرة، وكذلك الحال- في رأيي- في الخوارزمي وعلم الجبر.”
المصادر:
– ليلى سويف، الإسهام العربي في تأسيس علم الجبر، مؤسسة الفرقان للتراث الاسلامي
– نقولا فارس، كتاب الجبر: ولادته وتطوره في التقليد الرياضي العربي، دار الفارابي، بيروت