نزار أبو كروم

قضت الحرب العالمية الثانية على نفوذ الدول الاستعمارية الكبرى بعدما دمرت اقتصاداتها وجيوشها وبناها التحتية، ورسمت نظاما عالميا جديدا تحكمه الثنائية القطبية الأميركية السوفييتية. ومع تخبط القوى الاستعمارية وانحسار تأثيرها الدولي، بدأت الدول المستعمَرة تحقق استقلالها السياسي والاقتصادي والعسكري تباعا، مستغلة الأزمة الاقتصادية التي عصفت بأوروبا بعد الحرب، ومستثمرة خلافات الدول المنتصرة بعضها ببعض. وفي المنطقة العربية، نالت معظم الدول استقلالها السياسي وأجْلت القوات المحتلة عن أراضيها في غضون عشرة سنوات ونيف من انتهاء الحرب فتمكنت هذه الدول أخيرا من التحرر بعد أربع مئة سنة من الاحتلال. لكن القدر لم يكتب لهذه المنطقة الاستقرار، فسرعان ما أخذت الحرب الباردة بين المعسكرين الشيوعي والرأسمالي تلقي بظلالها على الشعوب العربية. وراح كل من المعسكرين يحيك المؤامرات للإطاحة بالأنظمة المتحالفة مع المعسكر الآخر، فيحرك الخلايا والتنظيمات في الجيوش ويمول التظاهرات وحركات الانقلاب. وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي استمرت القوة المهيمنة المتبقية في العالم، الولايات المتحدة، في إيصال الحركات الموالية لها إلى حكم بلادها، أو دعم الانقلابات السلمية والعسكرية على الأنظمة المعارضة لمصالحها.

والانقلاب حركة عنفية أو سلمية قد يتخللها استخدام للسلاح أو تهديد باستخدامه بهدف الإطاحة بحكم أو نظام قائم. وغالبا ما يكون الجيش مسؤولا عن الانقلابات في الدول النامية التي لم تتمكن من إفراز نظام يوفر الاستقرار السياسي والاجتماعي، كونه المؤسسة الأكثر تنظيما ونفوذا في البلاد.

نالت سوريا نصيبا وافرا من هذه الانقلابات، بدأت بانقلاب الفريق حسني الزعيم على العهد الاستقلالي السوري عام 1949 تلاه انقلابان آخران في العام نفسه. ثم توالت الحركات الانقلابية وصولا إلى حركة حافظ الأسد “التصحيحية” عام 1970. وفي مصر تولى تنظيم الضباط الأحرار زمام السلطة في تموز عام 1952 ومهد لاعتلاء الزعيم العربي جمال عبد الناصر سدة الحكم، فاتحا صفحة جديدة في التاريخ العربي المعاصر. عاشت مصر بعد ذلك حالة من الاستقرار السياسي لأكثر من خمسين عاما إلى أن قامت الثورة على عهد الرئيس حسني مبارك ثم على خلفه الرئيس محمد مرسي فتجاوب الجيش بقيادة عبد الفتاح السيسي مع مطالب الشعب وانقلب على الرئيس عام 2013. أما العراق، فقد شهد الانقلاب العسكري الدموي على الأسرة الملكية الهاشمية الحاكمة ورئيس وزرائهم النافذ نوري السعيد عام 1958 بقيادة عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف. وإثر خلاف بين الرجلين، انقلب الثاني على الأول وتولى مقاليد الحكم عام 1963. بعدها بخمس سنوات، وصل حزب البعث العراقي إلى السلطة بعد انقلاب نفذه أحمد حسن البكر وقريبه ونائبه النافذ صدام حسين. كما شهدت المنطقة العربية عددا من الانقلابات العسكرية في ليبيا والسودان وموريتانيا والجزائر والصومال واليمن لعل أبرزها انقلاب العقيد الليبي معمر القذافي الذي حكم بلده لفترة تزيد عن أربعة عقود.

وفي لبنان، انقلابان عسكريان يتيمان وقعا في مناسبتين مختلفتين، أحدهما بتوقيع الحزب السوري القومي الاجتماعي، والآخر نفذه العميد الركن عزيز الأحدب، لم يكتب لهما النجاح. فالأول الذي وقع نهاية عام 1961 إبان عهد الرئيس القوي فؤاد شهاب، أساء منفذوه قراءة الأحداث الإقليمية، فرأوا في انفراط عقد الوحدة المصرية السورية فرصة لهم للانقضاض على النظام اللبناني وتحقيق مشروع حزبهم التاريخي، لكن شعبة المخابرات اللبنانية (المكتب الثاني) تمكنت من إفشال المخطط. أما الثاني فكان انقلابا صوريا تلفزيونيا اقتصر على احتلال مبنى محطة التلفزيون اللبنانية في تلة الخياط عام 1976 وإعلان بلاغ لم يكن له أي تأثير على مجرى أحداث الحرب الأهلية اللبنانية، غير أنه فتح الباب أمام المزيد من الانشقاقات الطائفية داخل الجيش اللبناني وبالتالي مفاقمة الانقسامات اللبنانية. وقد يعزى السبب في فشل معظم الثورات والانقلابات في لبنان إلى تركيبته الطائفية المتجذرة القادرة على صبغ أي تحرك من هذا النوع بألوان مذهبية أو مناطقية. وبالنظر إلى مآل الانقلابات العسكرية في الدول العربية المحيطة وفي باقي الدول النامية التي تسببت إما بالفوضى الأهلية، أو بالحكم الاستبدادي، أو بالحرب الخارجية، نستنتج أن الدعوات التي برزت في الشارع اللبناني بعد ثورة 17 تشرين التي تطالب بانقلاب وحكم عسكري، لا تصب في مصلحة البلاد. ولعل الأجدى بنا الانكباب على إعداد نظام جديد يؤمن المساواة والعدالة الاجتماعية والسياسية ويضمن الحرية والسيادة لحماية لبنان من التدخلات الخارجية والخضات الداخلية على حد سواء.