زكريا الشهاري

يد نتخيلها، وإن فارقت بيننا وبينها حياة أو موت، نبقى نتخيلها، حين السعادة، حين الحزن، حين المرض، وحين الإنجاز، والإخفاق،  قوية تسطيع رفعنا من أي قاع وتكسيرنا الى فتات في نفس الوقت، يد تشعرنا بأقصى درجات الأمان كما الخوف، نشتاق لها أن تُهنَا في سُبلِ الحياة، وتخيلناها لترشدنا لنعود للصواب، أنها سيداتي سادتي يد الأب.

سأقبل يد كل أب، وأضعها على رأسي، كل أب تعب في هذه الدنيا حتى تجرحت يداه لكي لا تجرح أيدي أولاده في المسقبل، كل أب صفق فرحاً يقلب يداً على يداً لإنجازٍ متواضع قامت به ابنته أو ابنه، كل يد أب ضمتهم الى صدرة ومسحت دموعهم حين الحزن، نقلت الضمادات الباردة واحدة تلوى الأخرى على جبينهم، رفعتهم حين فشلوا وتعثروا في هذه الحياة، ومسكت بهم لتخبرهم أن هنالك أمان في هذه الحياة.

روحي الفداء لكل يد أب، مسكت يد ابنته لتذهب تواجه نذل اغتصبها أو تحرش بها وتأخذ حقها منه، لكل أب وضعها على يد ابنته وقال: ” يابنيتي، لا تخافي مني، ولا تخافي من أحد فهذه يدي  بيدك”. لكل يد أب قربت ابن ليقعد بالقرب من أبيه يشكو عليه تنمر فتية في المدرسة والحي ويقول: “لا عليك، فهذه يدي بيدك”. يد تجلب الأمان للقلب والروح، تذهب الرعب والجزع، وتجعلك قوي مهما واجهت، سأقبلهن واحدة واحدة، وأضعهن جميعاً على رأسي.

وقبحت كل يد أب، ضرب ابنته حتى كادت أن تموت – إذا تكرم عليها بأن يبقيها تتنفس أو حماها أحدٌ منه- لأن حقيرٌ اغتصبها أو تحرش بها، فقرر أن يطهر ما يظنه شرفه، ويده بعد هذا الفعل لم يبقى فيها أي شرف، وترى ذلك الوحش البشري أمامها كل يوم ، ولكنها ترى أن تلكم اليد في المنزل وحش أشد وأخطر. لكل يد أب ضربت ابنه لأن فتية في الحي تنمروا عليه، فهو ليس رجل عند صاحب اليد، فتراه يُضربُ خارج المنزل ولكن خوفه الأكبر هو أن يعرف صاحب اليد أنه ضرب فيجهز عليه، فقحبت تلك الأيدي، وقبح حاملوها.

وترونا -سيداتي سادتي- وقد كبرنا، بل إني أعرف من بلغوا السبعين من العمر، يبحثون عن هذه اليد، ويخترعونها حين الحاجة ليسوا واعيين لما يصنعوا، ولكنه الحنين، نحن نحنّ للمألوف بطبيعتنا البشرية، فلا تعجب لرجل في خمسينيات حياته على خشبة النجاح يحس بها تصفق له، وفتى على نفس الخشبة يخشى أن تتعثر خطاه فترتفع عليه تلك اليد، وأن وجدت كلتاهما أمام المسرح أم لم تتواجدا، فلا فرق. أو فتاة في ريعان حياتها وقعت بحب نذل يرفع يده عليها، وتراها تحب تلك اليد وتقبلها، وهي لا تعلم أن كل يد رفعت على أنثى لا خير فيها، ولكنها ترى تلك اليد فيها وإن كانت تلك اليد موجودة ام لا، فلا فرق في الحالتين.

كما تعلمون -سيداتي سادتي- أن هذه الحياة أعقد من أن تكون ذات قطبين فقط، خيرٌ وشرٌ، يد تقبل ويد تقبح، كلا ولكن الحياة أعقد من هذا، كل يدٍ تقبل أوقات وتقبح أوقات، ولكن علينا أن نفهم أنه لا جدوى من تخيل اليد في فعل قبيح، وأن علينا أن نسامح تلكم الأيدي، دون أن نتأذى في المقابل، فإن كانت لا تزال ترفع عليكم لا  أقول لكم اتركوها ولكن سامحوا، سامحوا لكي تتحرروا من كل القيود التي وضعتها عليكم هذه الأيدي، سامحوا لكي تعيشوا حياتكم أنتم ولا تتحكم بها يد أو خيالها، بل ودعوني أتجرا وأقول: حاولوا أن تفهموا السبب وراء الفعل، فإن فهمتم السبب سهل عليكم أن تسامحوا، سامحوا تلكم اليد ليذهب شرها ويبقى خيرها.

والأهم، سامحوا، تفهموا، وتعلموا من تلكم اليد، لأن أيدكم يوما ما سوف تصبح مكانها، فلا تجعلوها مثلها.

وأنا في نهاية الأمر، لم يبقى لي إلا يد واحده لأقبلها، وأضعها على رأسي، يدّ في السبعين يتخالط فيها السمار مع التجاعيد والاوردة الدومية التي برزت، تضع خاتمٌ من عقيق يماني، سوف أقبلها سواء كانت حقيقة أم خيال، وأن بعدت الحقيقة سوف أقبل خيالها حتى يأتي اليوم الذي أستطيع فيه تقبيلها فيه، فسلام عليها من يد كريمةً، والسلام على صاحبها