بتول سويدان
للجدّات الفلسطينيّات، تلك اللّواتي يغنّين دوماً، بشفاههن الذابلات، مع تصفيقة اليد الرّفيعة الفوّاحة برائحة الزعتر البلدي، وسماق “المسخّن”. اللّواتي يغنين دوماً مرثية “طلّت البارودة والسّبع ما طلّ”، لهؤلاء بشرى سعيدة! لقد طلّت البارودة، وعاد السّبع، بل عادت سباع، ليوث، نسورٌ فواتك. سباعٌ إن زأرت بوجه المحتلّ سمعته نشيد “دربي مرّ ودربك مرّ وإدعس فوق ضلوعي ومرّ”، وإن زأرت في شعبها سمعته نشيد “أنا يا أخي آمنت بالشّعب المضيّع والمكبّل”. لهؤلاء اليوم نكتب، لعرين الأسود نكتب.
ظهرت أولى بوادر عرين الأسود في عام ٢٠٢٢ في البلدة القديمة في نابلس. تأسست من مجاهدين يتبعون فصائل فلسطينية مختلفة. عندما ازداد نشاطها قرر جهاز الشاباك الإسرائيلي العمل لاستئصالها. واستطاع في الثامن من فبراير الماضي قتل ثلاثة من الشّبّان هم أدهم مبروكة، محمد الدّخيل، وأشرف مسلّط. في ٢٤ من تموز اغتال الجيش الاسرائيلي المقاومين عبود صبح ومحمد العزيزي. ظهر عندها أيقونة العرين “النابلسي” في جنازتهما باكياً حاملاً البندقيّة. لوحق النابلسي حتى استشهاده مع صديقيه وبوصيّة سريعة قبل الاستشهاد:” بشرف عرضكم لا تتركوا البارودة.”
شهر على استشهاد النابلسي، أُطْلِقَت النار على جندي اسرائيلي. تبنّت العملية مجموعة عرين الأسود التي ظهرت الى العلن للمرّة الأولى. تلا ذلك تبنيها للعديد من العمليات في الضفّة والقدس. المصدر الأوليّ لأخبار العرين هو قناته على تلغرام حيث ينشر بياناته دائما مسبوقة بجملة “بعد قليل بيان مقتضب”.
توعد بيني غانتس، وزير الدفاع الإسرائيلي، بالقضاء على العرين. واعتبر أن نابلس وجنين هما أكبر التحديات التي تواجه الأمن الداخلي الإسرائيلي. ولعلّ ذلك تابع لمجموعة من المسببات والمؤثرات أهمها: أنّ الضفّة الغربيّة هي أكثر المناطق الفلسطينية تفلتاً من القبضة الأمنية الإسرائيلية. أضف إلى ذلك، أنه عدى عن كون فلسطين تشهد تصاعدا في الفعل المقاوم نوعا وكما، تمتاز الضفة بهذا التصاعد عن غيرها من المناطق، حتى أضحت الضفة بيئة حاضنة -بكل ما للكلمة من معنى- لمجموعات المقاومة المولودة فيها. مضافاً الى ذلك، الصفة الشبابية التي امتاز بها العرين، لا سيما أن عددا كبيرا من الشباب المنتسب إليه غير مشمول مسبقا في نظام المراقبة الإسرائيلية الأمنية.
تعيدنا حالة الرعب التي يسببها العرين، الى التفكّر في أهمية الكفاح المسلّح في مواجهة الاستعمار عامّةً، والاحتلال الإسرائيلي خاصّةً. ففي هذا الصدد، يتوجه بعض المراقبين باللوم إلى حركات المقاومة ويتهمونها بعرقلة عملية السّلام الفلسطيني-الإسرائيلي المزعوم. حسناً، لن نعود الى الوراء للبحث في أصل القضية ولمن تعود الأحقية بالأرض، فهذا مضمون آخر لا يكفيه هذا النص. لنمشِ عوضاً عن ذلك في رحلة إحصاءات بسيطة. عام ٢٠٢٢ قامت اسرائيل ب ٢٠٩ انتهاك بحق الصحفيين كان أفجعها اغتيال الصحفية شيرين بو عاقلة. في ذات السّنة، قام الاحتلال ومستوطنوه ب ٢٦٢ عملية اقتحام للمسجد الأقصى، اعتقلوا ٧٠٠٠ فلسطيني، قاموا ب ١٥٢٥ عملية اعتداء على فلسطينيين أو ممتلكاتهم، هدموا قرابة ٩٠٠ منزل ومنشأة تجارية وصناعية وزراعية في القدس والضّفّة. اقتلعوا أكثر من ١٢ ألف شجرة بالضفة، أصدروا ١١ ألف أمر إخلاء من مناطق مختلفة من مدن وقرى. وغيرها الكثير الكثير. ثمّ يأتي أحدهم فيقول، إنه ليس للفلسطينيين الحقّ في استخدام العنف وسيلة للدفاع عن النفس!
في الحقيقة، سواء أكنت معاديا للاحتلال أم مناصرًا له، لا يمكن لأحد أن يقنعك بأن تكتب هجاءً فيمن قتلك وسرقك وضربك أو أن تشكيه لقاضٍ في محكمة هو (المعتدي) أسسها!! فما بالك فيمن ينتظر منك مصافحته ومفاوضته والتطبيع معه!
في وصف العرين وشاكلته من حركات المقاومة قد تجد نفسك مقيّد الكلمة، حائر القلم. لذا سألجأ لما وجدته أكثر شبهًا بروح العرين وهو شعر لعبد الرحيم محمود تحت عنوان “قصيدة الشهيد:”
سأحمل روحي على راحتي.. وألقي بها في مهاوي الردى
فإمّا حياة تسرّ الصديق.. وإمّا مماتٌ يغيظ العدى
ونفسُ الشريف لها غايتان.. ورود المنايا ونيلُ المنى
وما العيشُ؟ لا عشتُ إن لم أكن.. مخوف الجناب حرام الحمى
بقلبي سأرمي وجوه العداة.. فقلبي حديدٌ وناري لظى
وأحمي حياضي بحدّ الحسام.. فيعلم قومي أنّي الفتى
على كلً، في خضم هذه المعمعة العظيمة، قد تسأل نفسك: لما كلّ هذا؟ توقف، تفكّر، تذكّر، بعد قليل بيان مقتضب، البيان: فلسطين حرّة.