حسين أبو دية | محرر
الإقتصاد، نوع من العلوم الإجتماعية، ظهر حديثًا على الساحة بالشكل المزخرف بالأرقام والمعادلات التي نعرفها، ولكن بالواقع أي شخصين يتبادلان المنتجات والصناعات يكون الإقتصاد ثالثهما. تطور الإقتصاد بين الأمس، واليوم بصورة سريعة، فكان في بداياته أرقاما وعملات ذهبية تجمع وتطرح، أما الآن، فالإقتصاد يشكل رأس الهرم الذي يرتكز على قاعدتين أساسيتين: السياسة والفلسفة، فلا اقتصاد دون سياسة، ولا سياسة دون فلسفة أو ما يعرف بسلم الأخلاق والقيم الذي يميز بين الصالح، والطالح
بعد العولمة، غزا الإقتصاد كل ميادين الحياة، من الإجتماع، والثقافة، والإبتكار، وغيرها….. هذا الغزو أنتج نوعًا جديدًا من الإقتصاد يسمى الإقتصاد الإبداعي. حسب سعيد عقل ” إن العقل يعمل لكنه لا ينطق لأنه لا يستعمل اللغة، واللسان هو الأساس لأنه ينطق” فالإقتصاد كالعقل، يعمل لا ينطق، أما لسانه فهو الإبداع، الإبتكار وخاصةً في المجالات الثقافية.
هذه الأخيرة بشتى مجالاتها تهدي الإقتصاد العديد من القيم. على سبيل المثال إن الصناعات الإبداعية، خاصة التي تتعلق بالأدب وباللغة، أعطت قيمة للتعددية في المجتمع اللبناني. فقد شهد هذا الأخير بروز فكرتين: الفكرة اللبنانية الصرف التي شكل الشاعر سعيد عقل رأس حربة فيها، وفي الضفة الآخرى فكرة القومية العربية التي تمثلت بالأدباء، والشعراء، والنقاد العرب والقوميين، ولكن التمازج فيما بين هذه الصناعات الإبداعية أعطت التعددية والتنوع للإقتصاد اللبناني، مثلًا قصائد سعيد عقل التي تغزل فيها بالمدن العربية كبغداد ومكة وغيرها
إن الإقتصاد يشكل الفاصل المشترك بين كل القطاعات الإنتاجية، الثقافية، الصناعية، الزراعية، والسياحية. إن الصناعات الإبداعية على صعيد الموسيقى، الأدب، والمسرح تخلق هوية معينة للوطن وهذا ما يجذب السياح. أي سائح يبحث دائمًا عن هوية المكان الذي سوف يقصده. هذا ما يشكل محرك أساسي للسياحة، فالصناعات الإبداعية التي أعطت هالة خاصة لمسرح الرحابنة على سبيل المثال دفعت بالعديد من السياح للقدوم من مختلف بقاع الأرض، للتعرف على هذه الهوية الجديدة بالنسبة لهم. هذا ما يسمح بالتمازج والإختلاط بين الحضارات، ما قد يؤدي إلى خلق ثقافة، وهوية ثقافية جديدة، فالتنوع هو الذي يحمل بذور التغير والتجديد
أخيرًا دخول الحضارة لا يكون إلا من خلال الصناعات الإبداعية، فهي تضفي جوًا من الروحانية في إقتصاد الدولة وتعطيه القيم. حسب العمليات الإقتصادية المعتادة فإن قيمة المنتج تحدد حسب الطلب عليه، والكمية المتوفرة أي حسب قانون العرض والطلب، هذا حال كل المنتجات الجامدة. أما المنتجات التي نفخ فيها الكاتب، أو المخرج، أو الملحن نفحة من روحه، تقدر بمقدار الإبداع، الإبتكار الموجود فيها. هذا الجواب البسيط على سؤال ” لماذا تقرأ هذه الرواية، ولا تقرأ رواية أخرى، أو لماذا تشاهد هذا الفيلم، ولا تشاهد فيلما آخر؟”
خلاصة، الإبداع حرية، ما إن تسقط هذه الميزة عن الإبداع حتى ينتفي معناه. لطالما كانت بيروت مركزًا للعديد من الصحف والمجالات بسبب جو الحريّة الذي كان يسودها. هذه الحرية هي التي تولد الإبداع الذي بدوره يعطي نور الحياة للفلسفة، هذا التفكير في التفكير يولد السياسة التي بدورها تعطي الحياة للإقتصاد. مجموع ما سبق يقدم دولة قوية ترتكز على سلم القيم والأخلاق الذي يدق ناقوس الخطر عندما تقع في خطأ. في هذا السلم يكون الأساس فيه. إن الإبداع جمال، وهذا الجمال حتمًا سينفذ العالم يومًا ما