بشير جرجس طنّوس | كاتب صحفي
تنسال خيوط الشفق من دفّات الستائر المنسدلة و فوها يرنّ بصوتٍ شذيٍّ فيداعب لهيب ركوة القهوة الصباحيّة. تلتصق العينان بشاشة التلفاز، تتبعان خطواتها، تتلّقفان شموخها على المسرح الذي لا بدّ منه غذاءً كالخبز كل يوم. تصعد في سيّارة أجرةٍ على عجلةٍ من أمرك تجعلك تقبل التسعيرة الجديدة دون مساومةٍ، فيروق لك البال حين تصل إلى مسمعك أغانيها على الراديو. و فيما يدور بك السائق بحنكته على اجتياز الضوء الأحمر ومياه الشتوة الأولى التي لم تستوعبها بنية الشوارع التحتيّة، تتأمّل رسم وجهها على جدران الشوارع، جدران بهتت ألوانها من المطر، من الاهمال، و قد ازاددت صلابتها من كثر المآسي التي شهدت عليها. و في عيد الاستقلال أو عشيّته، تضجّ المدارس بأغانيها الوطنيةّ، و يخرج الأولاد مهرولين بصغر قاماتهم نحو الأب، أو الأم، أو الأُخوان، وأحياناً الجد أو الجدة أو حتى الحم و أقراصٌ من ورق تتمايل على رؤوسهم، كانوا قد رسموها لتتناسق مع ألوان العلم. و قبل أن تقع عن رؤوسهم المهتزّة، يأخذونها بأيديهم و يلوّحون بها عالياً لتقارع السماء. آباءٌ و أمهاتٌ، و أُخوانٌ كبار يلاقونهم بغمرةٍ، بقبلةٍ، بغصةٍ… فأيُّ عيدٍ بقي ليحيوه؟ و حين تغرق الشمس في أفق المياه الراكدة، و ينثر القمر نجومه في الهزيع المنقضّ على الأرض، يكنكن الأولاد أنفسهم حول الأجداد ذوي الأفواه الحكيمة و البصيرة الثاقبة. هم الذين جبلتهم الحياة بالأسى و اختبرتهم بمشقّاتها، يحكون للأولاد عن مسرحيّاتها التي دبتّ الحياة يوماً في بيروت، و بعلبك، و دمشق، و القاهرة، و بغداد حتى أصقاع الأرض جمعاء. يطوون في حكاياتهم عبراً آملين أن تجد ملقاها عند الصغار، فلا يقلعون عنها كما فعل من كبر قبلهم. يحكون لهم عن فيروز، تلك الحجرة النفيسة، و عن الأخوين الرحباني الذي سال قلمهما خصباً فأبدعا بتراث ضالعٍ في التاريخ. فيروز في الذاكرة.. في قصص الحب.. في الوطن، و الوطنية.. في الفرح. فيروز في سراء و ضراء اللبنانيين، فيروز في كلّ مكان ولا مكان …
استغرق شعبي في البعد الفني لارث الرحابنة، و أغفل عن لبابه. فالانسان، بطبعه، ميّالٌ لما يمتّع حواسه، و حسّاسٌ ضد ما يكشف عن عيبٍ يعتريه. شعبي، بغالبيّته (و أقول بغالبيّته تفادياً للتعميم، فلا بدّ من مستقيمٍ في هذا الوطن، و إلا لمُحِي منذ زمنٍ)، تنكّر للنماذج القيمية التي أراد الأخوان أن يغرساها في المجتمع. اعتبرها اللبنانيون مثاليّةً و غير صالحة في الحياة اليوميّة، فنعوا السجايا على حائط الفناء، و نسفوها عن الوجود. نمت الكراهية بين الإخوة. انسلخ الالتحام في البيت الواحد. فكك المال أواصر المحبة، و أصبحت الثروة الغاية الأولى، و تحقيقها جائزٌ بأيّ وسيلة متاحة. شرْخ الأُسَر لا يرأبه مختارٌ، و لا أبٌ، و لا شيخٌ. نخرت الرذائل في دعامات التربية دون الاذعان لرادعٍ، و تغلغل الفساد في أواصر الدولة فأثقل كاهل مؤسّساتها. بات العلم امتيازاً لذوي الامكانات المادية، و العمال يفوقون فرص العمل بأضعاف. تبكي العيون على مداخل المطار، و على حطام مرفأٍ تقتات الحمامات من قمح اهراءاته. العدالة ما زالت تنتظر غربةً لتنصر دماؤها المهدورة، بيد أن دماء غربة و أبيها مدلج قد جفّا على حجار بوابة جبال الصوان. تستغيث الأرض لملكةٍ كبترا تضحّي بالنفيس للوطن في زمنٍ ضحّى أبناء الوطن بالوطن… استفحلت غريزة الوجود في الجميع حين رزحوا تحت شظف العيش. قوي عصب الأنانيّة، و بات احدنا ينظر للآخر بعينين جاحظتين تنذران بالخطر. خنع شعبي لأمر واقعه. تراه حُقن بالاحجام، و قطع عن نفسه هواء الأمل. اصابه الهمود، و بات ينتظر الأزمات ليتأقلم معها. أطّروا تطلعات شبابنا حتى باتوا ناقمون على بلدهم و يضعون الهجرة نصب أعينهم. حجّمونا حتى بتنا راضين بما هي حقوقٌ مكتسبةٌ في الدول المحترمة. حكّامنا ك”غيبون” الملك استغرقوا في جاه الملك و صخب الطوابير فيما الشعب يئنّ من مآسيه . ماذا حلّ بنا؟ و إلى أين نحن ذاهبون؟ ألم تجد رسائل الرحبانيين فينا ملقىً؟ أذهب كلّ ما أورثانا إيّاه سدى؟ لا ألومهما، فقد قاما بما هو مولج اليهما و هو تسليط الضوء على القضايا الاجتماعيّة و اقتراح سبل لتداركها، أمّا ترف الاختيار فهو لنا و البوادر تشير أننا لم نُصب الاختيار. أقول لكم قوموا من كبوتكم، كما قال أبو قاسم الشابي لتونس القامعة. اتخذوا من وقار الفضائل مسكناً لكم كما اتخدت الأمانة من الغاب مسكنها في مخيّلة مارون عبود. صوت الحرية يرتجف في اوتار حناجركم، فمدّوها بافواهٍ صاخبة لتشوش على اغفال الحكام. علينا الاستنارة بذوي الحكم فلا يستحق وطننا أن تكون الحياة فيه مذلّة. لنطبّق ما غنته فيروز “كيف ما كنت بحبك” و نتحلّى بكوة أملٍ بغدٍ أفضل. لنخيّل أنفسنا بذوراً تتحّمل قسوة الشتاء لتزهر ربيعاً أخضر. فماذا تبقى لنا غير الأمل؟ تجرّدنا من مبادئنا، و عائلاتنا، و أموالنا، و أعمالنا. ماذا تبّقى لنا سوى الأمل؟ نحن نعيش هنا لا رغبةً بالحياة بل مقاومةً لها. لكن، لا بدّ أن تثمر هذه المقاومة نصراً يوماً ما