نزار بو كروم | كاتب صحفي

يتناول الفصلان الثاني والثالث الحقبة التي تولى فيها “الحكيم” جورج حبش قيادة حركة القوميين العرب منذ تأسيسها عام 1951 حتى تاريخ حلها عام 1967. وفيهما يناقش حبش، مراحل تطور الحركة وتنامي شعبيتها في الدول العربية والتغيرات التي طرأت عليها بالتوازي مع التطورات السياسية التي شهدتها المنطقة، يناقش هذه الموضوعات مع محاوره الصحافي الفرنسي جورج مالبرونو. ففي بداية خمسينات القرن العشرين اضطر الحكيم إلى مغادرة بيروت بعد تخرجه طبيبا من الجامعة الأميركية بسبب ملاحقة السلطات اللبنانية المستمرة له واستقر في الأردن

في الأردن، باشرت حركة القوميين العرب إطلاق العمليات الفدائية، أي عمليات تسلل فدائيين فلسطينيين إلى الأراضي المحتلة بأسلحتهم البسيطة التي كانت الحركة تشتريها من السوق السوداء بميزانيتها الضئيلة. وقد انطلقت تلك العمليات من الضفة الغربية التي كانت بين عامي 1948 و1988 تابعة للمملكة الأردنية. تسببت هذه العمليات في تعكير علاقة الحركة بالنظام الأردني ما اضطر حبش إلى ممارسة نشاطاته السياسية بسرية من داخل المملكة. أثناء تواجد قيادة الحركة في عمّان تم توسيع نشاط الحركة في عدد من الدول العربية كما اعتمدت بعض الإصلاحات الداخلية في مبادئها منها مثلا التوصل لتسوية تميز بموجبها اليهودي عن الصهيوني، إذ ليس كل يهودي صهيونيا وتاليا ليس كل اليهود أعداء للحركة. وهو استنتاج بالغ الأهمية ينبغي التركيز عليه اليوم خاصة في ظل انكفاء حركات المقاومة العلمانية وصعود الخطاب الطائفي ومحاولة الصهاينة استغلال هذه الظاهرة عبر اسباغ اللون الطائفي على الصراع

في تلك المرحلة، أي في الخمسينات، سطع نجم الرئيس المصري جمال عبد الناصر قائدا للتيار الوحدوي العروبي الاشتراكي. كما كان تأسيس هذا الأخير للجمهورية العربية المتحدة القائمة على الوحدة بين مصر وسوريا أحد أبرز الأحداث العالمية التي طبعت ذلك العقد. يتكلم حبش في الكتاب عن الأمل العظيم الذي بعثه في نفسه قيام الوحدة ويعبر عن إعجابه الشديد بقيادة عبد النصر للتيار العروبي التقدمي. وعند مطالبة بعض أعضاء الحركة بحلها والانخراط في التيار الناصري الوحدوي، رفض حبش ذلك لاقتناعه بوجود ثغرات وأخطاء عديدة في الحكم الناصري للجمهورية. وبعد ثلاث سنوات من قيام الوحدة، سقطت بانقلاب عسكري نفذ في سوريا. إن فشل الوحدة، برأي حبش، هو نتيجة غياب الديمقراطية والتضييق على الحريات بعد قيام عبد الناصر بحل جميع الأحزاب وحصر النشاط السياسي بحزب حاكم واحد هو الاتحاد العربي الاشتراكي. وهو تفسير واضح ومنطقي لا لبس فيه. لكن ما هو مفهوم الديمقراطية بالنسبة لحبش؟ كان الحكيم يرى _حسب ما ورد في كتابه_ أن الحق في ممارسة الديمقراطية يجب أن يقتصر على “الأحزاب والطبقات التقدمية ذات المصلحة في الوحدة والاشتراكية.” بمعنى آخر بدل أن ينحصر الحق في العمل السياسي بحزب واحد يجب أن ينحصر بعدة أحزاب لها نفس الأهداف والتوجهات. ثم إن حبش نفسه لم يطبق الديمقراطية في حركته التي كانت عبارة “نفذ ثم ناقش” إحدى مبادئها الأساسية. لذا، فقد يكون انتقاد حبش لتجربة الوحدة نابعا من نقمته على إقدام سلطة الوحدة على حل حركة القوميين العرب مع باقي الأحزاب

ورغم متانة العلاقة المتصفة بالثقة والود والتأييد التي جمعت حبش بعبد الناصر، إلا أن انتقاد تجربة الجمهورية العربية المتحدة لم يكن الوحيد الذي وجهه الحكيم للزعيم المصري. فعام 1967 انتقد حبش ثقة عبد الناصر “المبالغ بها” بقيادته العسكرية معتبرا أنها تسببت بالهزيمة. بعدها بثلاث سنوات، لم يستطع حبش ولا الجماهير الفلسطينية أن يغفروا لعبد الناصر موافقته على مشروع روجرز وهو المشروع الأميركي لتسوية أزمة الشرق الأوسط وإنهاء حرب الاستنزاف بين مصر وإسرائيل

عام 1967 كان عاما مفصليا في مسيرة جورج حبش وتاريخ المقاومة الفلسطينية التي انتقلت بعد هزيمة حزيران إلى مرحلة مختلفة وجديدة من النضال. وتأسست الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين من قبل جورج حبش وعدد من رفاقه في حركة القوميين العرب إضافة إلى بعض المجموعات المقاومة ومستقلين. وسرعان ما شرعت بتنفيذ العمليات العسكرية من الأردن ومصر انطلاقا من إيمان قيادة الجبهة بضرورة إطلاق النضال المسلح المرتكز على الفلسطينيين أنفسهم عوضا عن التعويل على الأنظمة العربية

..يتبع