زيان خالد صافي | كاتب صحفي

(كتاب “ عنب تشرين” للكاتب: ادوار امين البستاني)

 

لولا فسحة الأمل…

عن “الصراخ والطائر الملون” و “عنب تشرين”…

الأدب مرآة الحياة، سطَّره قلم المعاناة، ورسمته ريشة الواقع، ونحته إزميل القدر؛ فبات يتوافق مع كل زمان ومكان ويعكس الواقع الإنساني بشكلٍ عام. فنجد فيما بين السُّطور حكمة رجل عجوز نُضِب مُعين شبابه، فأثقلته وحدة الختام وأحرقته شِواظ الحقيقة بالعجز عن التَّحقيق والإستسلام؛ وشابٍّ طموحٍ رَكِب قارب الأخطار، وتَجَشَّم وعورة المسار، شاحذاً غِرار الكَدِّ والإجتهاد، وفي عَيْنَيْهِ بريقُ املٍ بالوصول واثبات الذات. فهاتان القصتان الأدبيتان اللّتان بين أيدينا –”الصراخ والطائر الملون”و “عنب تشرين”- تحملان في طيّاتهما واقعاً انسانيّاً عامّاً في كلِّ زمانٍ ومكانٍ. فما هو الواقع الذي تعكسه هاتان القصّتان؟ وكيف تتشابهان مع أحداث حياتنا في هذه الفترات؟

إنطلاقاً من قصّة “الصراخ والطائر الملون”، نَجِد في “الجراد” مَثَلَ الشَّابّ الطّموح الذي يسعى وراء تحقيق أحلامه؛ والذي يمرُّ بأنفاق الصّعوبات المظلمة، مُقْتَحِمَ الأهوال آخذاً بناصية الأعمال، مستنيرًا بناقوس الأحلام والآمال ، متسلِّحًا بسلاح العزم والإصرار ، ومحتميًا بِجَوْشَنِ الصَّبر ونشوَة الإنتصار. فالإنسان وليد التحدِّيات والصِّعاب، ويسعى دائماً للحصول على المستحيل؛ وكل ما هو صعب المنال-من أهداف وأمنيات- يخلق لديه وهجاً وبريقاً يدفعه لنيله، ويصير في عينه جميلاً جوهرياً وأنه الكمال بحدِّ ذاته، ويخلق لديه حافزاً للجدِّ والإجتهاد والمثابرة؛ فحلاوة العيش بالصِّراع وتحقيق الذات. ومتى ما حصل عليه وبات رهين تصَّرفاته وفي قبضته، يفقد رونقه وجاذبيته، ويولَدُ حافزٌ جديدٌ وأهدافٌ جديدة وتَتَجدَّدُ رحلة البحث وراء المعنى ومعرفة النَّفْس. وهكذا كان الطَّائر الملوَّن بالنِّسبة للجراد، يسلبه حواسَّه وفكره وليله ونهاره في البحث عنه للتَّمتع بجماله وحسن إبداعه، لكنَّه بعدما حصل عليه وأصبح في قبضته، ماتت مشاعره الجيَّاشة الّتي كانت تسيطر على عقله ولبِّه سابقاً؛ وأصبح هذا الطّير أمراً عادياً وطيراً يشبه الطُّيور كافَّة

ولكن هل يُزهد بالشّيء بعد أن صار متاحاً وسهل المنال؟ وما مصير الإنسان إذا فقد الحافز والأحلام؟

وصولاً إلى قصّة “عنب تشرين” ، حيث نضوج الثّمر في شيخة الكبر.  فالأستاذ عبّود رجلٌ جاهد طيلة حياته في حقل التّعليم والعطاء، فهو كالشّمعة التي احترقت لإنارة درب الأجيال، انتهى به الزمان على شاطيء التّقاعد والإعتزال. فماتت الأحلام وخسر كلّ الأمال، ففقد المعنى وزالتِ النّكهة، متخبّطاً غريقاً في بحر الفراغ القاتل، محكوماً بأحاسيس الملل والكآبة، معترفاً بالهزيمة لأحكام الزمان. سجنته مشاعر العجز عن الإنتاج والتّأثير في مجتمعه ووقفت دورة الحياة الرّوتينيّة فجأةً، التي كان قد اعتاد عليها طيلة حياته، فتوقف الوقت عن المضيِّ. فالطّبيعة البشريّة قد أنبتت في نَفْس كلِّ إنسان أملاً قَوْلَبَتْه عليه، فهو مجبولٌ بِحبّ الإرتقاء والسموّ والمجد، ومتى ما توقّف الإرتقاء ذَبُلَت النّفس وضعفت وزالت نكهة الحياة

ولكن كُلٌّ مِنّا يكافح ويجاهد في الشّباب سعياً وراء الرّاحة في المشيخة والكبر… فهل حقاً الرّاحة موت؟

فلا ريب انّنا في هذه الفترات، نمرُّ بأنفاق تلك القصتين، ونتصادم مع احداثٍ متشابهة لتلك الّتي اصابَتِ الجراد والأستاذ عبّود. فنجد في تقاعد ذلك الأخير، ضجرالشّاب اللّبنانيّ المتعلِّم الذي كابد مشقّة العلم والعمل لإشباع رغبات الطّموح، وخلق فرصة الأمل لغدٍ أفضل؛ ولكنَّ الأوضاع السياسيّة والإقتصاديّة الرّاهنة حالت دون ذلك، فَيُخَيِّم الملل والضّجر، واليأس وخيبة الأمل على أيّامه، وبات مستقبله مجهولاً مبهماً، غاب من ليله نور القمر، وزال بريق الأمل بفرصة عمل. وبالأخصّ الوضع الصّحي العالمي، وجائحة كوفيد ١٩ التي غزت كلَّ بلدان العالم وأوقفت عجلة الاقتصاد، فمات بصيص الأمل بهجرةٍ للعمل، ووَهَنَت العلاقات والرّوابط الاجتماعية بين أبناء المجتمع الواحد، فأصبح الإنسان في عزلةٍ، كما الأستاذ عبّود الذي أصبح منعزلاً منقطعاً عن العالم. أما في صراع الجراد للوصول للهدف نجد نَفْسَ ذلك الشّاب اللّبناني الذي كابد ذُلَّ التّعلم، وواجه الحروب، والفقر، وقلّة الحيلة، وظروف معيشيّة صعبة للتخرّج من المدرسة، ومن ثم الإلتحاق بالدراسات الجامعيّة العُليا، للوصول إلى الهدف وتحقيق الحلم. فكم من مرّةٍ وضعه الزّمان بين طريقين مصيريين، إما إكمال العلم وتحقيق الهدف -رغم الصّعوبات والتّحدّيات- أو تَعَلُم صَنْعَةٍ منذ الصِّغر إذعاناً لصعوبة الحياة. وكم من مرةٍ سال الدَّمع على وسادةِ الحُلُمِ المفقود، جَدّده أملُ الغدِّ بتحقيق الآمال والأمنيات بالجدّ والإجتهاد والمثابرة على تحصيل الزّاد. لينطلق من جديد للبحث عن فرصة عمل يشبع فيها شغفه ومتطلبات حياته لتكون مدماك وركيزة لتكوين أسرة يؤمن لها حياةً كريمة. وهكذا دواليك، من تحدٍّ إلى آخر تكبر الأحلام وتنموا، وتتكرّر النّكسات وتتلوها الإنتصارات. تلك الإنتصارات المجبولة بنشوة الغبطة المؤقتة التي تخطفها أهداف أرقى وأبعد. وبذلك يبقى البحث عن هدفٍ جديدٍ هو الأسمى، كي لا نفقد بريق الحياة والأمل وتلك الومضة في ميدان القلوب التي تنير دجى الأوقات

https://education.hachette-antoine.com/ar/component/عنب-تشرين/