يرفند قوندره جيان | كاتب صحفي

للمئات من السنّين ، اعتمد البشر على الطبيعة لتزويدهم بمكوّنات الحياة الوفيرة . فكانوا ينسجون الملابس والأقمشة من الصوف، أو القطن، أو الحرير ، يصبغونها بألوانٍ مشتقّةٍ من النباتات والحيوانات. كما وضعت الأشجار في متناول أيديهم ما يلزم من مواد بناء المنازل، والأثاث، والتجهيزات

لكن سرعان ما تبدّلت الحال خلال االنصف الأوّل من القرن العشرين ، عندما طوّر الكيمياء العضويّ طرقًا لإنتاج العديد من هذه المنتجات من النفط. فما لبثت أن حلّت البوليمرات الملونة بأصباغٍ اصطناعيّةٍ مكان الألياف الطبيعّية في الملابس والأقمشة و  البلاستيك محلّ الخشب والمعادن في العديد من المواد الاستهلاكيّة والمباني والأثاث و هي كلّها موادٌ عدوّةٌ للبيئة غير قابلة للتحلّل لعشرات وحتّى مئات السنين

إلّا أن سرعان ما تزايدت المخاوف بشأن الاعتماد على النفط ومشتقّاته ، لا سيّما بتبلور الوعي حول طبيعة  هذه الموارد غير المتجدّدة  و خطر نضوبها يوماً ما. فاندفعت الصناعات الكيميائية والتكنولوجيا الحيويّة مجدّداً نحو استكشاف ثراء الطبيعة بحثًا عن طرقٍ بديلةٍ للموادّ التركيبيّة القائمة على البترول. و في سبيل هذه الغاية، تمّ تخصيص فرعٍ ٍ كاملٍ في التكنولوجيا الحيويّة المعروف باسم “التكنولوجيا الحيويّة البيضاء”

“التكنولوجيا للحيويّة البيضاء” طريقةٌ تقوم على الاستعانة بالخلايا الحيّة من خميرة وبكتيريا و نباتٍ و إنزيماتٍ لتجميع المنتجات التي يمكن تحلّلها في البيئة بسهولةٍ وتتطلّب طاقةً أقلّ لإنتاجها وتنتج نفاياتٍ أقلّ أثناء ذلك. في الواقع ، ساهمت التكنولوجيا الحيوية البيضاء في العمليّات الصناعيٍّة لعقودٍ من الزمن حيث تم استخدام الإنزيمات  البكتيريّة على نطاقٍ واسعٍ في تصنيع الأغذية و مساحيق الغسيل، و قد تمّ تصميم أوّل إنزيم يُستخدم في المنظفّات لتفكيك الدهون على عتبة العام 1988. وتتعدّد فوائد استغلال العمليات والمنتجات الطبيعيّة: فهي لا تعتمد على الموارد الأحفورية ، و هي أكثر كفاءةٍ في استخدام الطاقة وركائزها ونفاياتها  قابلةٌ للتحلل بيولوجيًّا ، مما يساعد على تقليل أثرها البيئي.  باستخدام ركائزٍ ومصادرَ طاقةٍ بديلةٍ ، تقدّم التكنولوجيا الحيويّة البيضاء بالفعل العديد من الابتكارات في الصناعات الكيميائيّة والمنسوجات والأغذية و أدواتٍ للتعبئة والرعاية الصحية.   ليس من المستغرب، إذاً، إهتمام  الأكاديميين  وصانعي السياسات المتزايد بهذه التكنولوجيا الجديدة واقتصادها ومساهمتها في بيئةٍ سليمةٍ ، و هذا ما قد يجعلها طريقةً موثوقةً للتنمية المستدامة

كان أحد الأهداف الأولى للتكنولوجيا الحيويّة البيضاء إنتاج المواد البلاستيكيّة القابلة للتحلّل. لهذه المركّبات   خصائصٌ مشابهةٌ للبلاستيك ، ولكنها تتحلل بشكلٍ كاملٍ وسريعٍ عن طريق البكتيريا الموجودة في التربة أو الماء. إلّا أن أحد القيود الرئيسيّة لتسويق هذه المواد البلاستيكيّة البكتيريّة هو تكلفتها الباهظة، حيث أن تكلفة إنتاجها أعلى بـ 5-10 مراتٍ من البوليمرات القائمة على البترول. المنتج الآخر الذي يمكن الاستفادة منه بشكلٍ كبيرٍ من التكنولوجيا الحيويّة المبتكرة هو الورق. هذا و يتمّ تصنيع سلعاً مثل الملابس وأثاث المكاتب من مواد البوليمر المصنوعة من حمض اللاكتيك ، الذي يتمّ الحصول عليه من تخمير سكر الذرة

على الرغم من عدم وجود تشريعاتٍ قانونيةٍ محددّةٍ حتى الآن ، يتم اتّخاذ خطواتٍ مهمةٍ لتعزيز التكنولوجيا الحيوية البيضاء لاسيما في أوروبا. لهذه التكنولوجيا  فوائدٌ كبيرةُ من الناحية الاقتصاديّة والبيئيةّ ، و لمجموعةٍ واسعةٍ من التطبيقات كما ذكرنا آنفاً