بكر حلاوي | كاتب صحفي

تأخذ الحرب الروسيّة – الأوكرانيّة الحيّز الأكبر من الاهتمام الدولي حالياً، ولكن هـذا الحدث لن يوقف التطور الإيجابي بين الأطراف كافة في المفاوضات النووية الإيرانية التي كانت بعيدة أيام قليلة عن اختتامها حسب التصريحات الغربية قبل اندلاع الحرب. هذه التطورات تُبرز غياب الشرق الأوسط عن بوصلة الاهتمام الدولي الكبير في المرحلة القادمة، وتضع المنطقة بدرجة ثانية أو ثالثة بالنسبة للعواصم المؤثرة، لكن هذا لا يمنع أن تأخذ “مفاوضات فيينا” بين إيران والغرب حصتها من الديبلوماسية الغربية بشكل لاحق مع مسارعة كافة الأطراف لإنهاء هذا الملف ايجابياً، حتى لو لم تضمن إيران عدم الخروج المستقبلي للولايات المتحدة من هذا الاتفاق كما فعلت إدارة الرئيس السابق دونالد ترمب، أو لم يضمن الغرب التعاون الإيراني الوثيق مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية. 

بالانتقال الى الشرق الأوسط، يعتبر الإنفاق النووي “حجر الدومينو” الأول في الأزمات العالقة، فما إن تنتهي إيران منه، ستسعى لتفعيل الإيجابية المبنية عليه وعلى حوارها مع المملكة العربية السعودية في بغداد أو مسقط. هنا، يمكن أن نعتبر أن ما نشهده من تصعيد عبر الجبهة اليمنية، والضربات الحوثية التي استهدفت دولة الإمارات العربية المتحدة في عداد الضربات الأخيرة لتحسين الشروط قبل الحل السياسي الكبير. 

أمّا في لبنان، فتبرز ثلاثة مشاكل استراتيجية تؤثر على البنية المستقبلية للبلاد وهي: ١-سلاح حزب الله، ٢- الأزمة الاقتصادية، ٣- ملف ترسيم الحدود البحرية.

يبدو واضحاً أن مسألة سلاح حزب الله لن تكون محلية بحت في أي وقت من الأوقات. فغضّ النظر عن الموقف الإيراني يعني أنه لن يستطيع لأَحد احداث أي تقدّم في هذا الملف، بالرغم مما قد بدأ يُرسم حول شكل النظام بعد حل مسألة السلاح والتواجد العسكري، من وجهة نظر أميركية أو فرنسية، ضمن كيان خاص في الجيش، وما يرافقه من “مغريات” في بنية النظام تُحسّن موقع البيئة الحاضنة للحزب في قيادة الدولة. لكن يبقى المُفتاح الأساسي لملف “الحزب” في طهران، وهو موجود ليتم وضعه على طاولة الحل والمفاوضات، بعد تحقيق العودة للاتفاق النووي ٢٠١٥ طبعاً.

من جهة أخرى، تسير الحكومة بمواكبة تشريعية مستقبلية بطريق شائك للبدأ برسم “سكة الخلاص” الاقتصادية عبر إصدار قانون الموازنة، وإقرار أولي لخطة الكهرباء، وخطة التعافي الاقتصادية لاحقاً مع إقرار الإصلاحات المطلوبة من قبل صندوق النقد الدولي وعموم المجتمع الدولي. هذا المسار الطويل، إن صدقت النيات الداخلية، سيؤدي بنهاية المطاف للخروج من النفق الأسود الحالي؛ وهنا يمكننا القول إن العامل الخارجي مساعد، ولن يكون معرقلاً للعمل الداخلي.

وبالنظر لمسألة ترسيم الحدود البحرية، يملك لبنان الهامش السياسي المعقول للحركة بالمقارنة مع الملف الأول. فالواضح مما حدث خلال زيارة المبعوث الأميركي الخاص لشؤون الطاقة الدولية آموس هوكستين أن هناك اتفاق لبناني لتمرير التسوية عبر اعتماد الخط البحري ٢٣ كحدود بين لبنان وإسرائيل. هذا الخط يضمن عزل حقلي “قانا” اللبناني و “قاريش” الإسرائيلي عن أي نزاع محتمل بين الدولتين ويحفظ الحق الكامل للدولتين باستثمارهما، لكن ما فاجئ الجميع هو تصريحات رئيس الوفد اللبناني للمفاوضات العميد المتقاعد بسام ياسين، الذي اتهم قادة بلاده جميعا بالتخلّي عن “الخط ٢٩” ومعه أكثر من ١٤٠٠ كم٢ من حق لبنان القانوني بالمياه الإقليمية. تصريحات العميد المتقاعد تزامنت مع تبرير أو صمت الأطراف المعنية بالملف وهي فريق رئيس الجمهورية وحزب الله؛ فالطرف الأول يحاول تقديم أوراق اعتماد إضافية للأميركيين كما حدث ببيان الخارجية الأخير حول الحرب الروسيّة، والطرف الثاني-حزب الله- لا يستطيع الّا تمرير الوقت بكل هدوء بانتظار الانتهاء من مفاوضات فيينا.

إذاً، ضمن هذه المرحلة الزمنية التي تشهد المتغيرات الكبيرة والعديدة في المنطقة والعالم، يستطيع لبنان في الربع الساعة الإقليمي الأخير بالظفر بحل لثلثي مشاكله الاستراتيجية: ترسيم الحدود، والأزمة الاقتصادية، هذا إن أحسن مسؤوليه استغلال الدعم الدولي، ولم يغرقوا في السجالات العقيمة محلياً، وعكس خلافات الخارج على عمل السلطات التشريعية والتنفيذيّة. بعد ذلك، يستطيع لبنان-المتماسك اقتصادياً وشبه المستقّر سياسياً- تقبّل الطروحات لمشكلته الثالثة: سلاح حزب الله، هذا الحل الذي لا بدّ أن تبدأ مفاعيله في الخارج لتنعكس بعدها لداخله.