الدعم الاجتماعي أثناء الأزمات هو فن من فنون الصحة العامة
4 آب/أغسطس 2020، الساعة 06:08 مساءً بتوقيت بيروت: تاريخ سيبقى محفورًا في قلوب اللبنانيين وعقولهم إلى الأبد. يمكن لكلّ لبنانيّ أن يروي لكم أين كان بالضبط وماذا كان يفعل لحظة سماع دوي انفجار مرفأ بيروت بأدقّ التفاصيل، من الفوضى التي سادت في اللحظات الأولى والهلع الذي سيطر على قلوبهم. ما الذي حدث للتوّ؟! ليأتي بعدها الخبر المروّع: انفجارٌ مدمّرٌ اجتاح مرفأ بيروت! مشهد ألمٍ وموتٍ ودمارٍ “سرياليّ” طغى على بيروت الحبيبة!
ذهولٌ وألمٌ وغضب! شعورٌ بالأذى والضياع تملّك اللبنانيين في جميع أنحاء لبنان وكافة أصقاع الأرض على حد سواء! خيطٌ خفيٌّ من الحزن ربط اللبنانيين فيما بينهم! الجميع أراد المساعدة بأي شكل ممكن! هرع المتطوعون إلى الأماكن المتضرّرة. تعاونت المجموعات مع بعضها البعض. وسرعان ما قام أفراد من المجتمع المحلي بتنظيم أنفسهم للاستفادة من الموارد الموجودة: فوزّع البعض المتطوعين على المشاريع والبعض الآخر شرع بإزالة الأنقاض. كذلك قام المهندسون والطلاب بتقدير الأضرار. وباشر المتخصّصون بتنفيذ إصلاحات طارئة مستخدمين المواد التي حصلوا عليها بأنفسهم. بدأ الكثيرون في جمع التبرعات وطهي الطعام وتوزيعه. وقدّم آخرون استشارات متخصّصة مجانية، كما قدّموا خدمات إعادة التدوير، بما في ذلك إعادة تدوير النفايات الإلكترونية. تمّ حشد المجتمع اللبناني بأكمله، لا سيّما فئة الشباب التي كانت حريصة على إحداث تغيير فعليّ! كان الشعور بالانتماء إلى المجتمع تجسيدًا حقيقيًا للقيم والتقاليد اللبنانية: للتكاتُف معًا ومساعدة بعض بأي وسيلة ممكنة.
تقول كارولين غانم، وهي أمّ لبنانية: “كأنّ الانفجار كان في البيت المجاور، وأنا أعيش على بعد 20 كيلومترًا من المرفأ! أُصيب أولادي بالصدمة! أردْت توجيه خوفهم وإحباطهم وعجزهم أمام دمار كبير كهذا إلى فرصة للأمل والإيجابية والتغيير. في بلد كلبنان، عندما تكون هناك إرادة، توجد دائمًا طريقة لإيجاد الأمل. لذلك فإن استجابتي كأمّ تمثّلت بتقديم الطعام كمواساة. بدأت الطهي وإرسال وجبات الطعام إلى المنطقة المنكوبة. بدأت وأولادي بمئة شطيرة في 5 آب/أغسطس، ومن ثم تحوّلت بدعم من العائلة والأصدقاء إلى مئة وجبة ساخنة يوميًا. تأثّرْت للغاية بالاستجابة الفورية والمساعدة والمشاركة واللطف الذي أبداه الجميع! فبعض الأشخاص قدّموا المساعدة من خلال طهي الوجبات، بينما قدّم البعض الآخر الدعم إما ماليًّا أو من خلال توفير مكوّنات الطعام. في ذلك الصيف المشؤوم الذي لا يُنسى، شارك أولادي والعديد غيرهم في الطهي. لقد ساعدنا ذلك على الشفاء من الصدمة التي سبّبها لنا الانفجار. اليوم، وبعد مرور عام على الانفجار، وعلى الرغم من الوضع الاقتصادي الكارثي الذي يواجهه لبنان، ما زلت أطهو.“
هذه هي الروح المعنوية اللبنانية التي حثّت المتطوعين على جمع حطام الزجاج الذي خلّفه الانفجار وتحويله إلى أغراض زجاجية معادة التدوير. بالإضافة إلى دعم عملية إعادة التدوير، أدّت هذه المبادرة الصديقة للبيئة إلى خلق فرص عمل يحتاجها الكثيرون في هذه الأوقات الصعبة. هي الروح المعنوية اللبنانية غير القابلة للكسر، والتي تسعى دائمًا لإيجاد جانب إيجابي في المواقف، مهما كانت أليمة! يقول أنطوني عبد الكريم، وهو ناشط بيئي في مجال إعادة تدوير الزجاج: “في اليوم التالي للانفجار، استيقظت وتوجّهت مباشرة إلى المنطقة المتضرّرة عازمًا على مساعدة أي شخص محتاج. لم يمض وقت طويل قبل أن ألاحظ عدم الاهتمام بالنفايات الصلبة المنتشرة في كل مكان. في ذلك الوقت، كنت منخرطًا بأعمال تطوعية ضمن مبادرة “Basecamp“. فاقترحت إنشاء فريقٍ للعمل على إدارة النفايات الصلبة، لا سيما الزجاج المحطّم الذي خلّفه الانفجار. وضعوني على اتصال مع زياد أبي شاكر، وتوصّلنا إلى خطة. كانت المبادرة تهدف إلى جمع الزجاج وإعادة تدويره في مصنعيْن في طرابلس. في البداية، كان لدينا خط ساخن حيث يرسل الناس إلينا مواقع وصوَر لأكوام الزجاج. كنا نجمع تلك المواقع ونعطيها لقائد الفريق. قمنا أيضًا بتزويد المتطوعين بمعدات الوقاية والأدوات اللازمة لجمع الزجاج. كما زوّدنا الفِرَق بشاحنات للجمع، ليقوموا بعدها بتكديس الزجاج في مكان محدد حتى نتمكن في نهاية الأسبوع من ملء الشاحنات وإرسالها إلى طرابلس. مع مرور الوقت، قمنا بتطوير نظام التجميع الذي كنا نعتمده وأنشأنا خريطة جوجل الخاصة بنا. فمن خلال إضافة جميع المواقع عليها، كان بإمكان أعضاء الفريق إنشاء مجموعات من مواقع مختلفة قريبة من بعضها البعض وإنشاء رابط لتلك المواقع. ومن ثم كنا نرسل ذلك الرابط إلى قائد الفريق. وفي غضون شهر ونصف فقط، تمكنا من جمع وإعادة تدوير مئة وخمسين طنًا من الزجاج المحطم.”لقد شكّلت قوة المجتمع المحلي وحكمته إلهامًا لهؤلاء المتطوعين لتحقيق هذا الإنجاز البارز في مجال الصحة العامة بموارد قليلة وفي هذه الفترة الوجيزة.
أما المساعدات الإنسانية فتدفّقت من جميع أنحاء العالم! فقد نظّم فنانون لبنانيون وعالميون معروفون حفلات موسيقية وخصّصوا إيرادات تلك الحفلات للبنان! كما وتعجز الكلمات عن وصف الأعمال المؤثرة التي قام بها العمال الأجانب في لبنان. ففي حين تأثر العمال المهاجرون في لبنان بشدة بالأزمة الاقتصادية التي دفعتهم إلى البطالة والفقر، إلا أنهم كانوا في الخطوط الأمامية لتقديم الدعم المجتمعي. فقاموا بإزالة الأنقاض ولعبوا دورًا أساسيًا في إعادة تأهيل الأبنية المهدّمة.
يُقال إن الشدائد تكشف جوهر الأشخاص. لقد تجلى هذا الجوهر في أبهى صُوَرِه خلال هذه الأزمة الصعبة. وربما يكون الوصف الأفضل لهذه الاستجابة هو وصف الشاعر جون دون. فيقول في قصيدته لِمن تُقرَع الأجراس:“لسنا جُزرًا مستقلّة بذاتها. كُلّنا جزء من القارّة، جزء من كل[…] موت أي كائن ينتقص مني، فأنا معني بالبشرية. لذا لا تراسلني أبدًا لتسألني لمن تُقرَع الأجراس، إنها تُقرَع من أجلك.“
تعاطف الناس مع معاناة الآخرين دفعهم لتقديم المساعدة. فأن تختار عدم غضّ النظر عن معاناة الآخرين، وأن تمسح آلام المنكوبين برفقٍ، وأن تقرّر أن تكون نسيم الأمل وسط اليأس هو فنّ من فنون الصحة العامة!