وراء العناوين: معركة العدالة عبر الأرقام
by sailforchange | July 8, 2025 | UA at SAIL Blogs
ماريا حسين
في جوف الصراع الدائر في غزة، تتناثر معركة أخرى هادئة في الظلّ؛ صراع تتشابك فيه الحقائق المتنازع عليها والأرقام المتباينة، حيث تُثقل كل إحصائية بحمولة حياةٍ وإنسانية وسردٍ عميق.
الموت هناك لا يقتصر على الحدث فقط، بل يُسجَّل، يُشكَّك فيه، ويُعرض ضمن التقارير الإخبارية. يصبح كل فرد رقمًا في الإحصاء، ويتحوّل كل رقم إلى حكاية. وفي ظل هذه المأساة، قد تُغيب الحقيقة بين ضجيج الاستراتيجيات والريبة.
بينما يراقب العالم غزة عبر تقارير مجتزأة وحياة ممزقة، يُطرح السؤال الجوهري: كم عدد الأرواح التي أزهقها هذا الصراع؟ وعندما تصبح الأرقام وحدها هي ما تبقى، تشتد المعركة حولها كما هو الحال في ساحة الحرب ذاتها.
الشّكّ الإحصائي: البحث عن التضخيم وسط الحرب
بادر فريق من الباحثين إلى محاولة تقدير مدى التضخيم المحتمل في حصيلة الوفيات المعلنة في غزة، عبر مقارنة بيانات وزارة الصحة مع تقارير الوفاة الصادرة عن وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) [١][٢].
الصيغة المستخدمة لحساب العدد الفعلي للوفيات في عموم السكان هي كما يلي:
حيث تشير
إلى مقدار التضخيم. وإذا كانت
δ=0
فهذا يعني عدم وجود أي تضخيم في أعداد الوفيات المعلنة.
افترض الباحثون، رغم ما في ذلك من تبسيط مفرط ومجازفة، أن فرص الوفاة متساوية بين جميع الفئات، بما في ذلك المدنيون وموظفو الأونروا.
ثم ركزوا على فئة ديموغرافية واحدة، وهي موظفات الأونروا من النساء اللاتي تتراوح أعمارهن بين 18 و59 عامًا، فوجدوا أن أعداد الوفيات قد تكون أعلى من المتوقع بنسبة تصل إلى 64%، أي ما يعادل 1,177 وفاة إضافية. فهل يعكس ذلك تضخيمًا متعمدًا للأرقام؟
قد يكون. إلا أن الدراسة سرعان ما قلّلت من هذه الفرضية، مؤكدة أن فوضى الحرب تعيق الوصول إلى بيانات دقيقة، وأن لا اتهامات مباشرة يمكن توجيهها، بل هي دعوة صادقة لتحسين جودة التقارير المستقلة مستقبلًا.
فلقد كانت دراسة باردة ومنفصلة، حيث عُوملت الأرقام كقطع شطرنج، لا كقصص إنسانية محملة بالعواطف.
ما وراء الاتهامات: قراءة حقيقية لبيانات غزة
في شهري أكتوبر ونوفمبر من عام 2023، تعرضت غزة لقصف متواصل، طال فيه المدارس والمستشفيات والأحياء السكنية. ومع تصاعد المطالب الدولية بالشفافية، وُجهت اتهامات لوزارة الصحة في غزة بتضخيم أعداد القتلى.
غير أن الأدلة المتوفرة تدحض هذه الاتهامات.
فالأنماط المسجلة من قبل وزارة الصحة والأونروا متقاربة إلى حد بعيد، حيث رصدت كلتاهما ارتفاعات متزامنة في أعداد الوفيات في السادس والعشرين من أكتوبر، وهو من أيام التصعيد في القتال[٤][٥]. فلم تكن هذه الأرقام من صُنع السياسة، بل تعكس واقعًا مريرًا شهدته المؤسستان معا.
فعليا، إن معدل وفاة موظفي الأونروا كان أعلى من معدل الوفيات في عامة السكان، رغم ظروف المعيشة المتشابهة .[٣]
بناءً على ذلك، ان كانت وزارة الصحة قد بالغت في الأرقام، لما كان هذا التفاوت واردًا. بل إن هذه المقارنة تعزز مصداقية الأرقام، وربما حتى تحفظها.
ففي الظروف الطبيعية، تسجل غزة نحو 13 وفاة يوميًا، لكن خلال فترة القصف ارتفع العدد إلى أكثر من 300 وفاة يوميًا. ولم يكن هذا الارتفاع ناجمًا فقط عن القصف، بل أيضًا عن انهيار الخدمات الصحية والكهرباء والاتصالات. فقد دُفن العديد من الضحايا تحت الركام ، ولم تُحتسب أسماؤهم جميعًا.
صراع الروايات: لماذا قد يكون التقليل من الأرقام استراتيجية محسوبة؟
مع ذلك، هناك من لا يقتنع بهذه الصورة. ففي مقال نشر عام 2024، طرح غابرييل إبستين وجهة نظر مغايرة، مفترضًا أن وزارة الصحة قد قلّلت من أعداد الوفيات بين الرجال البالغين بدلاً من تضخيمها.
فقد كان الرجال البالغون يشكلون أكثر من ثلث الوفيات المسجلة قبل الغزو البري الإسرائيلي في 27 أكتوبر، ثم انخفضت نسبتهم إلى 17% بعد ذلك.
ويرى إبستين أن هذه النسبة المنخفضة تعكس استراتيجية محسوبة تهدف إلى كسب التعاطف الدولي عبر ابراز الصراع على أنه مجزرة تستهدف المدنيين فقط. ويشير إلى ثغرات في البيانات، خصوصًا من شمال غزة، ويذكر جدل انفجار مستشفى الأهلية الذي أثر، برأيه، على مصداقية وزارة الصحة [٦].
كما ينوّه إلى توقف مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (الأوتشا) بحلول 31 ديسمبر عن إصدار تقارير مفصلة حول توزيع الوفيات، وهو ما اعتبره مؤشرًا على تصاعد حالة التوجس والشكوك حتى بين الجهات الدولية المعنية.
ومع ذلك، لا بد من التأكيد إلى أن الفجوات في البيانات أمر لا مفر منه في مناطق النزاع المسلح، وليست دليلاً قاطعًا على التلاعب. فحوالي 25% من الوفيات المعلنة استندت إلى مصادر إعلامية، كحل بديل ضروري مع تعطل القنوات الرسمية (٧).
References – المصادر
1) Zlochin, M. (2024). The numbers of dead in Gaza don’t add up – and there is no easy explanation. Sunday Telegraph, 28 March 2024. Retrieved from https://www.telegraph.co.uk/global-health/terror-and-security/unrwa-staffdeath-toll-gaza-israel-hamas-war-data/
2) Huynh, B.Q., Chin, E.T., & Spiegel, P.B. (2024). No evidence of inflated mortality reporting from the Gaza Ministry of Health. The Lancet, 403(10421), 23-24.
3) Khatib, R., McKee, M., & Yusuf, S. (2024). Counting the dead in Gaza: Difficult but essential. The Lancet, 404(10449), 237-238.
4) UNRWA. (2024). Situation Reports on Gaza. Retrieved from https://www.unrwa.org/resources/reports
5) UNRWA. (2024). Situation Report #66. Retrieved from https://www.unrwa.org/resources/reports/unrwa-situation-report-66-situation-gaza-strip
6) Epstein, G. (2024). How Hamas manipulates Gaza fatality numbers: Examining the male undercount and other problems. The Washington Institute for Near East Policy. Policy Notes 144.
7) PBS NewsHour. (2023). How does the Gaza Health Ministry calculate the death toll? Retrieved from https://www.pbs.org/newshour/world/how-does-the-gaza-health-ministry-calculate-the-death-toll
عن الكاتبة
ماريا حسين طالبة علم كمبيوتر في الجامعة الأميركية في بيروت