تقنية البلوكشاين كأداة لانتخابات نزيهة
by sailforchange | Apr 29, 2025 | UA at SAIL Blogs
ديالا سري الدين
في قلب كل ديمقراطية حقيقية، تقف الانتخابات النزيهة كدعامة أساسية تمنح الناس صوتهم في صنع القرار. لكن مع مرور الزمن، بدأ هذا المبدأ يتعرض لتآكل ملحوظ في الثقة، لا سيّما في الدول التي تعاني من فساد مستشرٍ وتدخلات سياسية حادة. لبنان، على سبيل المثال، عاش تجارب انتخابية متكررة، إلا أن نتائجها كثيرًا ما وُصفت بالمنحازة، محاطة باتهامات بالتلاعب، وفقدان للشفافية، وتكرار للأسماء والنفوذ السياسي ذاته. ومع كل دورة انتخابية جديدة، يتزايد شعور المواطن اللبناني بالإحباط، وكأن صوته لا يُحدث فرقًا حقيقيًا، وكأن اللعبة السياسية لا تتغير مهما تغيّرت الوجوه أو الشعارات.
هذا الشعور لا يقتصر على لبنان وحده. ففي استطلاع رأي أجرته مؤسسة غالوب مؤخرًا، أظهرت النتائج أن نسبة الأمريكيين الذين فقدوا ثقتهم في دقة الانتخابات قفزت من 6% في عام 2004 إلى 19% في السنوات الأخيرة. هذه المؤشرات، سواء في دول الغرب أو في لبنان، تعكس أزمة عالمية في الثقة بالنظم الانتخابية، وتؤكد الحاجة إلى حلول جذرية.
وهنا يبرز دور تكنولوجيا البلوك تشين، وهي تقنية رقمية لامركزية تملك القدرة على إحداث ثورة حقيقية في طريقة التصويت. تخيّل أن اللبناني، المقيم في بيروت أو في أقصى الضيع، يمكنه الإدلاء بصوته بثقة، وهو يعلم أن صوته لن يُزوّر، ولن يُهمّش، وأنه محفوظ بأمان، وموثّق بطريقة لا يمكن التلاعب بها.
الأنظمة الانتخابية التقليدية، سواء الورقية أو الإلكترونية، أثبتت أنها عرضة للأخطاء، سواء كانت بشرية أو تقنية، فضلًا عن كونها بيئة خصبة للتزوير والفساد. في لبنان، هذه الإشكاليات ليست مجرّد احتمالات، بل واقع نعيشه بعد كل انتخابات، حيث الشكاوى لا تُحصى، والطعون لا تنتهي، والثقة تزداد هشاشة. ومع غياب الشفافية، وتكرار مشهد الفرز خلف الأبواب المغلقة، لم يعد المواطن يشعر بأن صوته له وزن حقيقي في التغيير.
على النقيض من ذلك، يقدّم التصويت عبر البلوك تشين تجربة مختلفة تمامًا. تُمكّن هذه التكنولوجيا من تسجيل كل صوت على شبكة غير قابلة للتلاعب، حيث يتم التحقق من هوية الناخب بشكل آمن، ويتم عد الأصوات مباشرة وبدقة، ويصبح بإمكان الجميع التحقق من النتائج دون أن يُكشف عن هوية الناخبين. إنها عملية شفافة، عادلة، ومحمية، تقطع الطريق أمام أي تدخل سياسي أو حزبي.
لكن ما الذي يعنيه التصويت عبر البلوك تشين فعليًا؟ وكيف تعمل هذه التقنية على تأمين الانتخابات؟ لنفهم ذلك، يجب أن نلقي نظرة سريعة على خطوات العملية.
كل شيء يبدأ بمرحلة تسجيل الناخبين. في هذا النظام، يتم التأكد من هوية كل شخص بطريقة رقمية مؤمّنة، سواء عبر تطبيق معرّف رقمي أو باستخدام تقنيات التحقق البيومتري (مثل بصمة الإصبع أو الوجه). وبمجرد التأكد من هوية الناخب، يُمنح إذنًا فريدًا للتصويت، لا يمكن تكراره أو مشاركته مع أحد.
عند التصويت، يقوم الناخب بإرسال صوته من خلال واجهة إلكترونية آمنة – قد تكون عبر الهاتف أو الكمبيوتر – ليتم تسجيل هذا الصوت كـ”معاملة” رقمية على شبكة البلوك تشين. بمجرد إرساله، يصبح هذا الصوت غير قابل للتعديل أو الإلغاء، ويُضاف إلى سلسلة الكتل (البلوكات) التي تحفظ جميع الأصوات بشكل متسلسل وشفاف.
ما يُميّز هذه التقنية هو أنه لا توجد سلطة مركزية تتحكم بالنظام. فبدل أن تُجمع الأصوات في خوادم حكومية واحدة قابلة للاختراق أو التلاعب، يتم توزيعها عبر شبكة من الحواسيب التي تعمل معًا للتحقق من صحة كل صوت وفق آلية تُعرف بـ”الإجماع”. هذا يعني أن أي محاولة لتزوير أو تعديل البيانات تُرصد فورًا، وتُرفض تلقائيًا من قبل النظام نفسه.
من الناحية التقنية، يمكن لأي شخص – حتى المواطن العادي – أن يدخل إلى السجل العام ويتحقق من أن صوته قد تم احتسابه، دون أن يُعرف لمن صوّت، لأن الهوية تبقى مشفّرة ومحمية. هذا النوع من الشفافية لم نعهده في النظام التقليدي، حيث كثيرًا ما يشعر الناخب اللبناني أن صوته ضاع في زحمة الصفقات السياسية والفرز اليدوي الغامض.
وتكمن قوة هذا النظام أيضًا في النتائج الفورية. لا حاجة للانتظار أيامًا أو أسابيع لعدّ الأصوات وإعلان النتائج، بل تُحتسب الأصوات لحظة إدخالها، وتُعرض النتائج بدقة وسرعة وموثوقية، مما يُنهي فصول الطعون الانتخابية والجدل السياسي الذي نعيشه بعد كل دورة انتخابية.
بكلمات أبسط، التصويت عبر البلوك تشين هو وعد بمستقبل انتخابي لا مكان فيه للواسطة، ولا للتزوير، ولا لصناديق تُملأ قبل موعدها. إنه نظام حيث يُصبح صوت المواطن أداة حقيقية للتغيير، وليس مجرد رقم يُستغل في المعادلات السياسية الضيقة.
في بلدٍ مثل لبنان، حيث ساد الإحباط من جدوى المشاركة السياسية، قد تكون هذه التكنولوجيا فرصة ذهبية لإعادة بناء الجسور بين المواطن وصوته. إن تبنّي نظام تصويت عبر البلوك تشين لا يعني فقط تحسين التقنية، بل يعني تصحيح العلاقة المتزعزعة بين الفرد والدولة. يعني كسر الحلقة المفرغة التي جعلت الناس تظن أن الانتخابات ما هي إلا مشهد مكرر لا طائل منه.
لطالما سمع اللبنانيون وعودًا بالتغيير، ولكن وعودًا بلا أدوات، وكلمات بلا ضمانات. أما اليوم، فنحن أمام وسيلة حقيقية قادرة على إعادة تعريف اللعبة السياسية، وعلى كسر الاحتكار القائم داخل صناديق الاقتراع. تخيّلوا أن شابًا في عكار، أو سيدة في النبطية، أو مغتربًا في كندا، يمكنه أن يصوّت بثقة، وأن يرى تأثير صوته في النتيجة، دون خوف من التزوير، ولا تدخل من زعيم، ولا اختفاء لصناديق في الليل.
التكنولوجيا وحدها ليست الحل، لكنها أداة قوية بيد من يريد بناء دولة قانون ومواطنة. التصويت عبر البلوك تشين لن يغيّر لبنان من تلقاء نفسه، لكنه قد يكون الشرارة التي تعيد للمواطن الشعور بأنه جزء من المعادلة، لا مجرد متفرّج على مشهد سياسي مكتوب سلفًا.
السؤال لم يعد إن كان هذا المستقبل ممكنًا، بل إن كنا نحن – كمواطنين وناشطين ومؤسسات – مستعدون لمطالبته، والنضال من أجله، والعمل على تحقيقه. فالتقنية موجودة، والحلول متاحة، والفرصة أقرب مما نعتقد. ويبقى القرار بين أيدينا: إما أن نبقى في دوامة الشك، أو نختار طريق الشفافية الحقيقية.
لبنان يستحق انتخابات نظيفة. يستحق أن يُحتَرم فيه صوت المواطن. ويستحق، أخيرًا، أن تُكتب نتائجه بأصوات الناس، لا بأقلام المتنفذين.
عن الكاتبة:ة
ديالا سري الدين مديرة مشاريع في شركة إستدامة