ساري زين الدين | محرر
ان ما عشناه، كسكان هذه المنطقة على الأقل، في السنين الاخيرة كان مليء بفوضى الاراء و المواقف، و الاهم ان ما لم يغيب عن المشهد العام هو المتغيرات. بامكاننا ان نقول سخرية ان المتغير هو الثابت عينه، و هل تجتمع الاضداد الا في لغتنا؟ اما الثابت فعلا في كل الحوارات هو الثقافة: الثقافة والسياسة، الثقافة والاستعمار، المثقف و السلطة، او مثلا في كتاب ادوارد سعيد: الثقافة و الامبريالية. الثابت دائما هو الثقافة والمثقف. تعريف المثقف يختلف عموما و ينبع الاختلاف ذلك من اختلاف من يطل على المثقف و دوره: هل تعرف السلطات المستبدة المثقف و الثقافة كما يعرفها الطرف التقدمي، مثلا؟ ان الحديث عن المثقف لا يكتمل دون العودة الى غرامشي. في دراسته لكتاب “الامير” الشهير لميكافيللي، يعطي غرامشي تعريف المثقف من خلال شخصية ميكافيللي نفسه في الفصل الاخير من “الامير” و الذي يطل من خلاله ليخاطب الشعب. يقول غرامشي ان في النهاية نرى ميكافيللي قد جعل من نفسه شعبه واتحد به، والشعب هنا هو الشعب الذي اقنعه من خلال كراسه، الشعب الذي اصبح ميكافيللي تعبيره الواعي وبه جعل “الامير” عملية تفكير داخلي تحدث داخل الوعي الشعبي و تختتم نفسها بصرخة ملحة[1]. بمعنى اخر، ان المثقفين هم تلك الفئة التي تعي واقع الشعب و تفكر من خلاله و تصبح تعبيره الفذ الصريح و تبني شخصية الشعب المستقلة التي تنتهي بصرخة ضد القائم و تسلطه. و ذلك يعني ان المثقفين، عكس التنميط السائد القائل بعزلتهم ولا واقعيتهم، هم في علاقة مباشرة وجدلية مع عناصر الثقافة: يعري اللغة من مراوغاتها الايديولوجية، يلتحم بالحكمة الشعبية و يطورها، ينظر الى الدين بعين النقد لا بعين خاضعة. ان المثقف في ممارسته اليومية يغذي الحكمة الشعبية واللاوعي الاجتماعي، يدخل عليهما عناصر تقدمية. و هذه العملية ليست بتاتا خطية، بل تناقضية و متعرجة يعطي فيها المثقف و لا يرفض ابدا ان يأخذ، اي ان يتعلم ممارسيا.
اللغة كاداة سطو و تضليل
تسوق الاكاديميا عموما، و وسائل التواصل اليومي خصوصا، للغة على انها حيادية صافية وان الكلمات لا تنتج من خلال العلاقات الاجتماعية بل تظهر و كأنها ساقطة علينا من عالم اخر لا نحتك به ولا نؤثر على حركته. من هنا تحديدا يتم تصوير اللغة وكأنها خارج الصراع بين الجديد والقديم، بينما هي احدى ادوات الصراع بينهما. وللمثقف في العالم العربي دور محوري في كشف اللغة السائدة و تعرية مصطلحاتها التي احيانا تساوي بين القاتل والقتيل او الظالم والمظلوم وتتساوى فيها الأطراف كلها. في نقده للفكر اليومي، يميز مهدي عامل وظيفة اللغة، في مرحلة الصراع، بين الفكر المسيطر والفكر النقيض. يقول مهدي بان اللغة في يد الفكر المسيطر وظيفتها تكمن في تحصين مواقع هذا الفكر، تدعيم اسسها الممتدة في ذاكرة الوعي اليومي او اللاوعي الاجتماعي[2]. يمكن تلمس ذلك في نشاط الفكر العربي، فذلك الذي يقول ان ازمة العالم العربي هي ازمة حضارية مثلا ويفرغ كلمة حضارة من اي معنى علمي و يطمس مثلا تأثير علاقة الانظمة بالاستعمار كأحد اسباب تأخيرنا في سباق التقدم “الحضاري”. من هنا نرى كيف تراوغ اللغة من جهة ومن جهة اخرى تجاهر بايديولوجيتها. في دراسة اخرى لمهدي عامل عن الدولة الطائفية ينظر الى لغة الدولة الطائفية كلغة تؤمن شكل من الوجود للفكر المسيطر و تختصر له الطريق الى الوعي العام-اليومي كبداهة[3]. بمعنى اخر، ان للغة دور فاعل في تأمين شكل من الوجود للفكر المسيطر على مستوى الذات الاجتماعية، شكل وجود يناقض بشكل مضحك وجوده الموضوعي. هنا يكمن دور المثقف بدحض هذه الوظيفة للغة. في الواقع اللبناني مثلا، يبدأ دوره بنقد اللغة الطائفية واسقاط الحصانة عن النصوص و البداهات. فنسمع عموما كلمة “التسامح” بين الطوائف وكأن الخلاف والتناقض “طائفي” وهو ليس كذلك الا بعين الحاكم وفكره. هذا المثل يظهر كيف اللغة تخادع وكيف على المثقف تشفير الخداع وابرازه للشعب. بالتالي، في حركة الصراع هذه، نرى اللغة بوظيفتها الخادعة المراوغة و ايضا وظيفتها بالصراحة الفذة. و الخط الفاصل بين الوظيفتين هو المثقف العربي نفسه. ان دوره يكمن في فضح اللغة السائدة ومنعها من دخول الوعي العام-اليومي، ودعم المصطلحات الصريحة التي لا تخجل من تسمية الحدث كما هو
الدين و تشكيل حدود الوعي العام
عدا عن دور اللغة و علاقتها بالمثقف، للدين حصة كبيرة ان لم تكن حصة الاسد في تشكيل اللاوعي الاجتماعي والبناء القيمي للشعوب، وفي تاريخ هذه المنطقة تجارب واضحة للمثقفين. ان علاقة المثقف العربي بالدين تطغى عليها الحدة و سيوف المؤسسات. ان الخطوة الاولى للمثقف، على حد تعبير مهدي عامل، هي اسقاط الحصانة عن النص فلا نص يقف فوق النقد[4]. من هنا تبدأ علاقة المثقف بالدين فهو الذي ينظر له بعين النقد. ان هذه العلاقة تاريخيا لم تكن سلمية باي شكل فكل ما علا النقد كان يعلو عليه سيف المؤسسات و المطلق للاخضاع، هكذا كانت الحالة منذ السهروردي، ابن خلدون، و ابن رشد. فحتى لو كان المثقف ليس بحالة قطيعة مع الدين كان يظهر الاخير بقوته المؤسساتية. وهكذا كانت الحالة مع الحلاج، شهيد التصوف الاجتماعي، فهو الذي لم يخرج عن الدين بل عبر عن امال المهمشين في العهد العباسي بتوصفه الاجتماعي وبقوله وسعيه نحو مفهومه عن الحق. ادناه ابيات من شعر ربما كان احد اسباب اعدامه:
فقد جفت عيون الناس أضحت نقطة سوداء
وتذوي عروق الأشجار، تلقي حملها للأرض
وتدفنه كمجهِضة تكفن عارها في الطين
ويمشي القحط في الأسواق يجبي جزية الأنفاس
من الأطفال والمرضى
نرى الحلاج يشكو من الطغيان واستئصال قوت يوم المرضى والأطفال، وهو الذي لم يتخلَّ عن دينه بل عبر من خلاله عن ظلم اجتماعي كان هم الناس اليومي. رغم ذلك لم يسلم لأن دين الحلاج الشعبي لم يكن طرب لاذان دين المؤسسات المستبد. هنا كان وما زال دور المثقف بالفصل دائما بين دين الشعب و دين المؤسسات: الاول تقدمي احيانا و يستوعب العناصر المهمشة والاخير لا يعرف الا القوة المطلقة. مثلا يقع ادونيس في فخ هذا الفصل عندما يخرج خوفا على يديه من التلوث بالواقع وحرصا على نظافتهما ليقول ان جماعات دين الشعب، اي الناس التي نلتقيها يوميا، ليست قادرة على التغيير الثوري الا اذا تحررت نفسها من هذا الوعي[5]. وهنا يخرج علينا ادونيس ليماثل بين دين الشعوب العربية الذي هو شكل من الوعي اليومي ودين الانظمة الذي هو دين العنف المؤسساتي. مثلا في هكذا مقاربة تتساوى ثورة القرامطة مع التنظيمات الارهابية، فكلاهما مرجعهما ديني في عين هذا المنهج. وهذا المنهج ليس بجديد، فقد حكم على القرامطة بالزندقة والكفر لانهم خاضوا احد أولى تجارب العدالة الاجتماعية والسياسية في الاسلام، و حصل الأمر نفسه مع “الخوارج” (لن نتطرق لمسألة الخوارج هنا رغم اهميتها). هذا مثال عن اخفاق المثقف في دوره كذلك الذي يدخل في عملية تفكير داخلي مع شعبه و يتحد به لينتج ارادة جمعية ضد حالات الظلم و التهميش. ان دور المثقف دائما على المحك في بلادنا حكما بالتعديات و التحديات اليومية التي تفرض عليه ان يخرج و يحدد موقفه من كل ذلك
البداهة كمدخل لشل العقل
ما يربط الدين و اللغة في حقل الفكر المسيطر هو البداهة كشكل يطرحا نفسهما به. بمعنى اخر، لا يستعمل الفكر المسيطر الدين واللغة الا كبداهة ليشل قدرة اي احد على النقد فيصبحا مسلمات، خارج التاريخ. و دور المثقف يبدأ بالشك في البداهات وقراءة ما بين السطور. ان احد الامثلة المباشرة للبداهات التي يتم التعامل معها كمسلمات هي التعريف السائد للبنان باعتباره بلد الاقليات الطائفية، و بأي معيار يكون الحاكم هو الاقلية؟ الاقلية في لبنان هي عمليا هؤلاء الذين لا يحكمون، اي المهمشين من الطوائف كلها. لكن بتعاملنا مع هذا التعريف كبداهة نكون قد وقعنا بفخ الفكر الذي يسعى الى تأبيد الواقع الحالي وننزلق الى موقعه بتبنينا لادوات تحليله – بداهات فكره. لعل احد اهم المحاولات من قبل مثقف عربي للشك في البداهات هي محاولة ادوارد سعيد في “الاستشراق”. نقرأ في النص السعيدي مثلا أن ما حققه المستشرقون الاوائل وما استغله الذين لم يكونوا مستشرقين في الغرب، نموذجا مصغرا للشرق ملائما للثقافة السائدة وتفسيراتها النظرية[6]. يظهر ادوارد سعيد هنا كمثقف رفض بداهات الرؤية الغربية للشرق. بمعنى اخر فقد كشف ادوارد سعيد ان هذا الشرق الذي يدور حوله الكلام ليس حقا الشرق، بل الشرق الذي ينتج صورته الفكر الاستشراقي في الغرب. ان سعيد كان واعي لذلك ولخطورة البداهات، مثلا في دراسة عنوانها “ادوارد سعيد و دور المثقف”، يتكل الكاتب على تعريف للثقافة كان ادوارد سعيد حريص على تجنبه وهي تلك الثقافة باعتبارها نوعاً من توحيد دلالات الرمز والمعنى لدى الجماعات، وهي بهذا المعنى، تشكل المخزون المعرفي والمجالي والوجداني لجماعة معينة، فتتغلغل في الوعي واللاوعي لتصبح شفافة وبديهية، وجاهزة دائماً للاستعمال والاستحضار في الفرح والحزن، وفي الطقوس المختلفة، وفي طرق التعبير عن المشاعر[7]. وهذا المفهوم يسعى لتكريسها كعامل إجماع وموضع اتفاق بدل ابراز الطبيعة الجدلية للثقافة والانتاج المعرفي. في هذا المفهوم يكون دور المثقف قراءة كل ما كتب وان يصبح مفكر موسوعي بينما المطلوب حقيقة هو ان يكون ناقد لكل شيء حتى ما يعرف بالبداهات، انه الانسان الذي ينتج المعرفة ليس من تحصيل الكتب فقط بل من التحامه بواقعه و تجارب شعبه
نهاية، ان اللغة في الحقيقة ليست حيادية و تلعب بالفعل دور المرواغ والمخادع. على العكس من ذلك ان الكلمات خادعة والحرب بالكلمات ادهى وبالكلمات يغريك خصمك ويشل فيك القدرة على النقد. في تلك الحالة، تنزلق الى موقع الفكر المسيطر وتبرح من خلاله تفكر، وتصبح حتى في نشاط فكرك المعرفي اسيرا لمنطلقات ذلك الفكر
[1] غرامشي، انطونيو. ألأمير الحديث: قضايا علم السياسة في الماركسية. الطبعة الأولى، منشورات الجمل، بيروت – بغداد، 2017، صفحة 22
[2] عامل، مهدي. في نقد الفكر اليومي. الطبعة الأولى، دار الفارابي، بيروت، 1988، صفحة 28
[3]عامل، مهدي. في الدولة الطائفية، الطبعة الأولى، دار الفارابي، بيروت، 1986، صفحة 13
[4] المصدر نفسه، صفحة 14
[5] ادونيس. النهار العربي و الدولي، بيروت، العدد الخامس، 1977
[6] سعيد، ادوارد. الاستشراق، الطبعة الأولى بالعربية، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، 1981، ص 170
[7] زريق، رائف. ادوارد سعيد و دور المثقف، مجلة الدراسات الفلسطينية، بيروت، 201